ريم قيس كبة
لم يكن حبا في زمن الكوليرا.. رغم أن تأثرهما برواية ماركيز كان قد تجاوز الحلم ليكتب واقعهما بسحرية تفوق التصور.. كان ذلك في زمن الحرب.. في عراق الثمانينات.. كانت في ربيعها الخامس عشر.. وكان قد شارف على الخامسة والعشرين.. أحبها وأحبته.. عشق فيها ذكاءها وطموحها وإقبالها على الحياة بحسّ أنثى متوقدة رغم براءة العمر وقلة التجربة.. وعشقت فيه ذكاءه ورجولته وعمقه وثقافته.. مثلما سحرتها أبوّته وعشقه المجنون.. اختار أن يتلبس معها دور العاشق-الأب.. واختارتْ أن تكون طفلته المدللـّة المطيعة في آن.. وراح يغذي اهتماماتها بالقراءات العميقة والكتب الرصينة.. صارت مواعيدهما الغرامية تتقاسمها المعارض الفنية والحفلات الموسيقية والمسرحيات الجادة.. نمت شخصيتها على يديه وتبلورت وازدادت عمقا.. مثلما وجدَ هو فيها اُنثاه-الحلم.. ولم تقف أمام حبهما احتماليات رفض الأهل أو المجتمع.. بل كانا مصرّين على أن يعيش حبهما “إلى الأبد”..ولم يكن ليعكـّر أجواء الحب العميق بينهما وحلم مستقبلهما المشرق سوى غيرته العمياء التي كانت تتنامى بمرور الوقت.. فقد أحسّ بما لا يقبل الجدل بأنها ملك صرف له.. فقد كبرت على يديه.. ربّاها وعلّمها وبنى شخصيتها حتى صارت دميته الأثيرة أو تمثاله الذي أبدع تشكيله.. أما هي.. فقد كان لذكائها وتأثير الكتب عليها أن جعلا منها شخصية قوية قادرة ومتحققة.. شربتْ نضوجَها المبكر وازدادتْ توقدا ووعياً.. ولم تعدْ ترتضي لنفسها أن تحسَّ بأنها “جارية” تؤمر فتطيع.. كان حلم الارتباط قد أوشك أن يصبح حقيقة حين مرّ على حبهما ما زاد على ثماني سنوات.. كان قد أسس فيها لعمل ومشاريع واستطاع أن يؤثث بيت المستقبل قشة قشة.. وكانت هي قد شارفتْ على التخرج بتفوّق من فرع الاختصاص الذي أحبّـته وأبدعتْ فيه.. لكن نزعة التمرّد فيها أشهرتْ سطوتها أمام غيرته التي راحت تتفاقم.. وصار كل ذلك يقف حائلاً دون الوصول إلى النهاية السعيدة التي طال معها الانتظار.. وأصبح كل ما كان بينهما من مسلمات قابل للجدل وإعادة النظر.. وبعد نقاشات طالت ومشاجرات قاتلة.. قررت هي أن تحسم فصل النهاية.. وبعد أن يئسَ هو مستنفدا كل المنطق.. لجأ (وهو المثقف الواعي) إلى السحر والشعوذة لعلهما يعيدان إليه حبيبته!.. ولكن هيهات.. فقد انتهت قصتهما بكثير من الألم.. وبوجع ربما احتاج عمراً ليشفى.. وهاهما يلتقيان بعد ربع قرن من الفراق.. عند منتصف المسافة من طرفي العالم حيث اختار كل منهما أن يعيش.. لم يتزوج بعدها رغم أنه خبر الحب والعلاقات.. أما هي فقد تزوّجتْ وأنجبت وأصبح أولادها في عمر الزواج.. وقد سبق طلاقها هذا اللقاء ببضع سنين.. ربما حلمَ هو بلقاء يجعلها ترتمي في أحضانه ما أن تراه.. ولكن لقاءهما لم يكن سوى تتمة لقصة قديمة لم تعد تحمل بين طياتها سوى طعم ذكريات خافته.. فتفاجئـُهُ بأن تحكي له قصة طلاقها.. وقصة حبيبها الكولومبي الجديد!.. ليحدثها هو عن علاقاته!.. ورغم كل ذلك كانت أجواء ماركيز تخيـّم عليهما وهما يستعيدان معا ذاكرة حب بطعم الحرب والشتات.. هاهما اليوم صديقين حميمين اجتمعا بعد فراق طال.. لم يجددا حبهما مثل نهاية قصة ماركيز.. ربما لأنهما احتاجا لربع قرن آخر كي يعيشا معا تلك النهاية السعيدة.. |