أول آيات العشق الفرح.. لكنه بدا مشوبا بارتباك.. هكذا يتسلّل عطركَ إليّ لتتشمّمه مسامي فأفرح بارتباك.. ففراقك وألمي يرعباني قبل أن يشدّني إليك عشقك.. هكذا علّمتني التجارب بعد أن أودعني العشقَ من ظننتـُهُ حبيب عمري فأودعته روحي ورحل.. ولو أنه رحل مرغماً ما توجّعتُ.. ولتفرغت للصلاة من أجله وأوقدت له الشموع كل ليلة.. بيد أنه رحل إلى أُخرى بقرار.. خانني.. وترك لي ذخيرة ذكريات بقيـَتْ تتفجـّر في وجهي سنواتٍ دون أمل بشفاء..
فهل شفيتُ منه اليوم حدّ أن أسمح لأصابعك أن تدقّ على باب تصديقي فأفتح؟.. مازلت أخشى كلام الحب رغم جوع مسامعي إليه.. ورغم توق أنسجتي للمسة دفء حنونة من عاشق حقيقي.. إلا أن توجّسي وخوفي باتا يقفان حاجزاً دون أي رجل.. أسمح أحياناً بالحديث.. بالتواصل بالمرح بالنقاش بالمشاركة.. لكنني لا أستطيع أن أسمح بدخول رجل إلى مملكة قلبي بعد أن شقيت عمراً وأنا أحاول أن أتخلّص من دكتاتورية وجوده فيّ.. قال لي أحد الأصدقاء مرة وأنا أبكي حرقة ووجعاً بين يديه “أصعب الصدمات التي تمرّ بنا علاجها في إثنين: الوقت والانشغال..” وأضاءت ببالي عبارة قرأتها لميلان كونديرا في “كتاب الضحك والنسيان” تقول”عندما كان التاريخ يسير ببطء كانت أحداثه القليلة تعلق بسهولة في ذاكرة الناس، فتنسج لوحة خلفية يعرفها الجميع. أما اليوم وبعد أن صار التاريخ يسير بخطى واسعة، صار الحدث التاريخي سرعان ما ينسى بليلة واحدة وصار التاريخ يتبخـّر من ذاكرة الناس”.
كنت أعلم تماماً أن لعبة النسيان صعبة.. وإذ كنت أعلم أيضا أنني من أصحاب الذاكرة المؤلمة فقد كان لزاما عليّ أن أتطرف فأُثقل تلك الذاكرة بالتفاصيل أكثر فأكثر.. حتى يصبح عصيا عليّ أن أحتفظ بكل شيء مرة واحدة.. وكنت أثق في أن الوقت والقدر سيقفان الى جانبي ما دام قراري صارماً وما دام إصراري على الحياة هو المحرك الحقيقي..
وحاولت جاهدة.. رحت أُثري كل لحظة تمرّ بي بآخرين جدد وبأحداث جديدة.. رحت أُعبّئُ أيامي بمهارات لم أعرفها وتجارب لم أقم بها من قبل.. كنت أدرس وأعمل وأقرأ وأُمارس الرياضة وأُبالغ بملء فراغات وقتي بهوايات أكتشفها للمرة الأولى.. وكنت لا أجرؤ على أن آوي إلى فراشي حتى يكون التعب والإرهاق قد استنزفاني تماماً لئلا يؤرّقني البكاء وتوقظ كوابيس الذكريات هدأة حلمي.. وإذ استبدّ بي اليأس من نسيانه ومن إلغاء ذاكرتي التي تخصه.. رحت أُحاول أن أُبعده بالتدريج.. فأضعه في الخطوط الخلفية للذاكرة: ألغيت الحديث عنه تماماً.. تخلصتُ من كل ما لدي من أشياء تخصه.. وتجنبت المرور بأي مكان ضَمّنا معاً ذات حب.. رحت أرغم نفسي على أن أُحيل نار الغضب والألم التي تودي بأعضائي إلى وقود إبداعي.. وإذ أحسست بالقوة تتنامى بداخلي رفعت أخيراً شعار المواجهة.. وقررتُ أن أسمع وأتكلم وأرى كل ما كنت أخاف منه.. وكنت كلما نجحت أكثر أُكافئ نفسي بابتسامة تشجيع وبقرار مواجهة جديد.. فهل أصبحت اليوم مستعدة تماماً لأن أُكافئ نفسي بحب جديد ما دام قلبي بخير؟.. لا أُخفيك أنني متوجسة.. لكن ذلك لم يمنع قلبي من الابتسام ولا عيني من التماعة العشق.. وهذه المرة سأعشق.. ولكن بحذر!