سألت صديقي الذي اختار التفرغ من العمل لتربية بناته مبكرا، عن متعته بحياة بلا عمل ويوميات مكررة، أين تكمن سعادته في مثل هذه الحياة الخالية من الالتزامات؟
اختصر الكلام بقوله إنني بانهماكي الدائم والركض للحاق بالعمل، عاجز عن التمتع مثله بإفطار الصباح الرائق والبطيء مع قراء الصحيفة والاستماع إلى الراديو، “حياتك العملية سلبت منك التمتع بالطعام!”، هكذا قال.
الطعام البطيء! حقا لقد فُقد من حياتنا، لهذا فقد الطعام نكهته، التسرّع في كل شيء يسلب من الأشياء روحها، وسرعتنا في الحياة سلبت منا الحياة نفسها.
لم يكن صديقي يعني حقا تلك الحركة الأخلاقية التي انبثقت بداية الثمانينات من القرن الماضي في أوروبا لمناهضة الوجبات السريعة وأطلقت على نفسها “الطعام البطيء”.احتج آنذاك نشطاء الحركة العالمية على ماكدونالدز في أوروبا، مدافعين عن الطعام المحلي المنتج بشكل أخلاقي، والذي يطبخ ويقدّم ويتم الاستمتاع به بما يكفي من الوقت لتذوّق مكوّناته.
ومع أن المال ومراكز الاقتصاد السياسي انتصرا في النهاية للطعام السريع وأفرغا حركة “الطعام البطيء” من نشاطها الذي خفت مع مرور الوقت ولم تجد ما يدعمها لأنها مجرد توجه أخلاقي لا يجلب الأموال والإعلان كما تفعل شركات الطعام السريع، فإن مجرد استذكارها يعني أن فرصة إنتاج “الطعام الأخلاقي” تحثنا على العودة إلى الذات. الطعام جزء من أخلاقيات الذات ومجرد تحوله إلى عجلة متسارعة الحركة، يعني أننا فقدنا الصلة بذواتنا وأمعنا في إيذاء النفس.
برامج الطعام التي تقدم من بعض التلفزيونات عالية الحساسية، باهرة وأخلاقية حد الرفعة، كونها تعيد الدرس التاريخي عن معنى استمرار الحياة واستيعاب فلسفة الطعام، لأن مجرد تحوله إلى فعل متسارع، لا يعبأ بطرق التناول وطبيعة المكان ونوعية الملاعق وحساسية لون الصحون، يفقد الطعام نكهته التاريخية حتى إذا كان قد قدم لحم الغزال مع أسماك أعماق البحار!
لقد كان أوكاكورا كاكوزو باهرا وهو يضع كتاب الشاي الذي ينطوي على سحر خفي يجعله لا يقاوم ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية، فالشاي بالنسبة إليه، ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلفة في نبتة الكاكاو.
مثل هذا الدرس الأخلاقي العميق الذي قدمه أوكاكورا كاكوزو في “كتاب الشاي” قبل مئة عام، لم يجد له معادلا للطعام في حياتنا المعاصرة.لقد ارتكب الجنس البشري ما هو أسوأ من قسوته على النفس عندما حطم العلاقة مع الإحساس بالجمال وتذوق النكهات على طبيعتها، وشرّع للكلام ولوك الطعام في وقت واحد، أو تناول الشطائر السريعة مشيا على الأقدام!