أخاف من عالم تغيب فيه الموسيقى.. أطول الألسنة وأفصحها، لغة الذين ينطقون عن الهواء، ويتحدّثون باسم السحب والأنواء والأقدار والمسافات، وكل شعوب الأرض.
الموسيقيون قوم، تعبت في مرادهم الأجسام، والتراجم والتأويلات، هزموا قواعد النحو والصرف والإيتيكيت، حاوروا القصب والخشب والجلود والوبر، نفخاً وقرعاً وضرباً وهمساً ولمساً.. ولكن، هل أسمعت أنغامهم من بهم صمم؟
الموسيقيون -في أغلبهم- قليلو الكلام، سريعو النسيان، واهنو الحركة، شاردو الذهن، ذابلو العيون، نافرو الأصابع.. وغاضبون بلطف ساحر، مثل ملائكة يترجّلون.أحسد أصدقائي الموسيقيين لأنهم يقبّلون العالم في ثغر واحد.. أسكت في حضورهم مثل نحلة فوق زهرة، وأكتفي بكلمة (الله.. !).
المعذرة أيها النحويون، من قال: إنّ “الموسيقا” تكتب بألف مقصورة؟! إنها لا تكتب إلاّ بألف ممدودة العنق نحو السماء، مثل بجعات الباليه، وراقصي الميلويّة، وصوامع النسّاك ومناجاة المتبتّلين، والزاهدين في الكلام فوق الكلام.
تتحدّث الرواية القديمة عن ذاك الرجل الذي دخل مجلس الخليفة العبّاسي بآلة غريبة، عزف عليها فأضحكهم ثمّ أبكاهم ثمّ أرقدهم، وغادر.. لكنّ الراوي غفل عن تتمّة الحادثة بعبارة “ثمّ عاد في صباح اليوم التالي فأيقظهم”.. ليته لم يعد، فنوم الظالمين والحمقى “عبادة”، لو تعلمون.. عفوا، ليته عاد، لعلّ الخليفة وبطانته يصحون على سماع الموسيقى، بدلاً من طنين الدسائس وقرع طبول الحرب، وأبواق التأهّب وصليل السيوف، ونعيق الغربان المحلّقة فوق الجثث.
باغنيني، الملقّب بشيطان الكمان، كان قد أطلق صهيل جنونه في أحد تجلّياته الموسيقيّة، حتى انقطعت به أغلب الأوتار، لشدّة تماهيه، ولم يبق منها إلاّ وتر واحد، واصل الإدهاش على نفس السويّة، بل وأكثر، وحين أكمل، سألته إحدى الحاضرات: كيف تسنّى لك ذلك! فأجاب “لكم تمنّيت الاستمرار في العزف دون أيّ وتر يا سيدتي”.
الموسيقيّ نبيل صامت، وهو الذي يحضن آلة العود، ينحني للقانون، يقبّل الكمان، يهمس للناي، يحاور الطبل، ويجلس إلى حضرة البيانو بكامل أناقته، وقد حطّت فراشة حريريّة سوداء على رقبته، تكريماً وإجلالاً لرحيق فنه الساحر.
الموسيقيّ تنصت إليه جدران القاعة دون تهامس أو تململ أو سعال أو نعاس، يفرغ كلّ ما في أصابعه من حنين و”خواتم”.. ثمّ يعود إلى بيته بذات الإيقاع، وهو يحتضن آلته والأفق.
الموسيقيّ ترجمان بين الآلة وسامعها، بل ترجمان الأشواق بعينه، إنه أنين القصب الذي اجتثّ من أحراشه البعيدة، ألم الجلود التي غادرت أصحابها، وندم بعض الخشب الذي غادر أمّه، ضلّ طريقه، وعاد إليها قبضة فأس.
مع الموسيقيّ، نطرب، ننتشي، نغمض العينين، نتمايل، نرقص، نحلّق حتى يذوب شمع الجناحين على طريقة إيخروس الإغريقي أو ابن فرناس الأندلسي، لكننا لا نسقط إلاّ إلى الأعلى.
الموسيقيّ يكتب بخطّ سرّي.. لا، عفواً، إنه يكتب بحبل سريّ، يصلك مع الرحم الأوّل، والعشق الأوّل، واللغة الأولى.