د/عبد المجيد بَطالي
بداية يمكن القول إن القصة القصيرة جدا كوْنٌ مجتمعي شاسع بتفاصيله الدقيقة وشخوصه المختلفة المتناقضة حينا والمتآلفة أحيانا أخرى.. بحركاته المتناسقة والمتنافرة في ذات الآن.. بأحداثه المتراكمة في الزمان والمكان... بمعالمه النفسية والاجتماعية والسياسية الذاتية والموضوعية.. كل ذلك وغيره يقدمه لنا هذا الجنس الأدبي المكثف جدا، ضمن خطاب متناسق أحيانا، مختزل تركيبيا في جمل وكلمات قلائل جدا.. لكنه مخاتل تارة ومنفتح تارة أخرى على قراءات المتلقي المتعددة.. كل حسب وجهة نظره أو من زاوية طريقته أو منهجه أو منظاره الذي يرى من خلاله هذا الخطاب القصير جدا (المنضغط) المشاكس... سيّال المعاني، متناسل الدلالات... من هذا المنطلق ومن هذه الأرضية تأتي نصوص المجموعة القصصية القصيرة جدا الموسومة بـ (شذرات ناعمة) للقاص فلاح العيساوي(كخطاب مختلف) ترفل منفتحة في معانيها على تأويلات متعددة “ تحفز الذهن القرائي وتستثيره ليداخل النص ويتحاور معه...”(2)(في إطار مكاشفة المتلقي لشبكة دلالية متلاحمة من حيث البنية، منفتح من حيث الدلالة...)(3) ينسج القاص فلاح العيساوي نصوص شذراته الناعمةبما يؤثث الحياة من قضايا اجتماعية وسياسية ونفسية.. وانشغالات إنسانية.. تشكل في كنهها مرجعية البنية الدلالية العميقة التي يحفر المتلقي من أجل الكشف عنها وربطها بالسياق اللغوي، وببناء النص التركيبي.. وقد تجد أحيانا عدة قضايا متداخلة في بناء النص الواحد دلاليا.. يثير الاجتماعي في أول قصة تتصدر المجموعة ما يصور تلك العلاقات التي تربط الأفراد، الأقارب منهم على الخصوص في المجتمعات العربية خاصة في الزواج.. ففي قصة (ابن العم) (ص/6) يصور السارد صدمة البطل العاطفية التي وكزته في وجدانه وفي حبيبته معنويا في كلمات واخزة حين كان رد الأسرة بكلمات مدمّرة تضمنها جوابهم بالرفضالمبرم لبطل القصة رغم ما فعله من أجل إسعادها... وللسارد فلاح العيساوي ما يميز أسلوب خطابه السردي هنا.. انطلاقا من نظرته المتبصرةللقضايا الإنسانية والحياتية التي يطفح بها الواقع بروافده المتشاكلة والمتباينة على السواء.. فنجد القاص وهو يحكي عن بطل من أبطال قصصه وقد تناول الجانب العاطفي فصوره تصويرا رائعا، ودقيقا في قصة (ابن العم) سابقا وفي (البستاني) (ص/7). إذ كشف لنا النقاب عن تلك العلاقة المتفاوتة بين طبقات المجتمع وانعكاساتها السلبية على الجانب النفسي والعاطفي والإنساني بين أفراد الأمة الواحدة.. فالبطل / (ابن البستاني) هو مجرد عامل في الحقل له عواطفه وإنسانيته ووجوده.. يعمل بتفان وبطيبة وحنان مع الزهور الجميلة (هذا السلوك المتفرد للبطل) التي افتقدته البطلة / الأميرة... في محيطها - ربما – جعلها تسقط في غرام الشاب الفقير (ابن البستاني) لتقرّر من داخل عاطفتها تلقائيا الاقتران به.. لكن المفاجأة التي ستتلقاها الأميرة (بدور) من الشاب في خطابه لها بالرفض..بدعوى أنه يعشق أميرة أخرى.. وهنا تكمن المفارقة الصادمة.. التي بنى عليها السارد تشويق المتلقي وجعله مأسورا بين أحضانٍ كونية قصصية راقية... ابن البستاني الأميرة (بـدون اسم) الاسم/ (بدور) طبقــة فقيرة طبقة غنية يرفع الأدغال... عن الزهور تتمتع بالنظر إلى الزهور وإذاتأملنا في البناء اللغوي للمجوعة القصصية القصيرة جدا (شذرات ناعمة) باعتباره نسقا كليا، نجد ذلك (الطابع الاجتماعي الذي تحمله اللغة بصفتها عاملا أساسيا في إبراز العلاقات الاجتماعية (أنثروبولوجيا) التي لا تقوم ولا تتدعّم إلاّ عبر توسّل اللغة في عملية التواصل.. كما تلعب دورا أساسيا في مجال التراكم الثقافي...) كما يذهب إلى ذلك الألسني (إدوارد سابير)(4).. وهذا ما لاحظناه في قصص المجموعة إذ تعتبر اللغة المعبّر بها تركيبيا في بنيتها السطحية.. ذلك الوعاء الذي يترجم سلوك الجماعة ويصور بالتالي عاداتها وتقاليدها داخل نمطمجتمعي وإنساني معين.. كما لا تخلو نصوص القاص من جمالية في خطابه السردي، ممتطيا في ذلك لغة الرمزية والإيحاء للتعبير عن المستور، والمخفي الاجتماعي والأسري... ففي نص القصة المعنون بـ(البيضة)(ص/8) ...يحكي السارد عن حالة اجتماعية مُؤْلمة لمْ يَنْجُ منها أي مجتمع.. ألاَ وهي الخيانة الزوجية.. إذ يرمز بذكاء وحرفية إلى الزوجين بالدجاجة والديك في علاقتهما المثالية التي تربطهما قبل أن تفرخ الدجاجة (بنتا) فائقة الجمال.. تأمل الديك/ الزوج.. البنت وفكّر مليّا، فكانت المفاجأة الحزن بدل الفرح لأن الأمر فيه نظر.. حيث الانعكاس النفسي والعاطفي البادي على الزوج (اسودّ وجهه، وأمسى كظيم).. وبنفس المنهج في السرد جاءت قصة (الموءودة)(ص/10)التي تحكي بالتلميح عوض التصريح وبالإشارة عوض المباشرة.. عن قضية اجتماعية أخرى مُحزنة ومُخزية،تفْتكُ بالمجتمعات البشرية.. ألا وهي (الاغتصاب).. الذي عبر عنه السارد بفنية عالية في التصوير الجمالي للغة،والذي يوحي بتوليد الدلالة الممكنة، من بنية نص سردي يتدفق عذوبة في الوصف.. مبينا أن البطلة/ الضحية المغلوبة على أمرها وهي تجلس أمام القاضي.. وقد ظهرت عليها علامات الاغتصاب (روحعارية،وأحشاءممزقة.. ودموع..) وهي كلها رموز دالة على الظلم الاجتماعي من طرف فئة مجتمعية جانحة وصفها السارد بـ (الوحوش)القابعةخلف القضبان.. لكن نفوسها الشريرة الماكرة (تظهرالندمالزائف،وتنظرإلىفريستها ولعابهايسيل..).. وفي حوار لطيف جدا من القاضي مع الضحية المسكوت عنها في النص، لضعفها في الخليّة الاجتماعية يسألها عن الواقعة.. فتجيب بصوت مذبوح فيه تردُّد من الخوف لضعف مكانتها في المجتمع.. ولخَجلها من الإفصاح عن أمرها أمام القاضي..توسّلت بالآية الكريمة إذ فيها ما يكفي ويشفي السائل عماتضمره النفس الإنسانية...هذا وقد تميز الخطاب السردي عند صاحبنا بجمالية رائقة في التصوير الفني للقصة، وظف من خلالها السارد الرمزية التي تفيض بالإيحاءات والإيماءات،دون الشطط أو الغلو في سِرْداب الغموض... وقد ذهب القاص فلاح العيساوي في توليفه لمتون قصصه القصيرة جدا إلى اختيار أسلوب اللغة السهل الميسر، بغية التواصل مع قرائه بجميع مستوياتهم الفكرية والثقافية... وبالتالي تحميل النصوص إمكانية التناسل التأويلي،والتوليد الدلالي... وهذا تميّزٌ سرديٌّ طبعَ جلّ نصوص المجموعة القصصية القصيرة جدا (شذراتناعمة) ... هوامش: 1)شذرات ناعمة/ مجموعة قصصية قصيرة جدا/ للقاص فلاح العيساوي / منشوراتمركزدعمالثقافةوالفنونفياتحادأدباءديالى / تقديم ياسين خضرالقيسي 2)المشاكلة والاختلاف / د. عبد الله الغدامي / المركز الثقافي العربي/ الطبعة 1/ 1994 / الصفحة 6 3)المشاكلة والاختلاف / د. عبد الله الغدامي الصفحة 6 بتصرف.. 4)بتصرف عن الألسنية علم اللغة الحديث.. د. ميشال زكريا الطبعة الثانية/1983 ص/ 223 |