ناجي الغزي في لحظة مشحونة بالتوترات الإقليمية والدولية، جاءت زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران، وعودة ترامب إلى المسرح النووي، والتسريبات الإسرائيلية حول نواياها تجاه إيران، كضربات سياسية متزامنة تهز بنية النظام الإقليمي التقليدي وتعلن ميلاد مرحلة جديدة. لم تعد السعودية تكتفي بدور اللاعب المُنقاد، بل تحولت إلى لاعب مركزي يُعيد تشكيل التوازنات ويضع الإقليم على سكة التقاطع الاستراتيجي بدلاً من الاحتراب الأيديولوجي. أولاً: السعودية خارج المحورين لسنوات ظل الشرق الأوسط محكوماً بثنائية قاتلة: محور أمريكي-إسرائيلي مقابل محور مقاومة تقوده إيران. اليوم تقف السعودية خارج هذا الاستقطاب، لا عبر الحياد السلبي، بل من خلال ما يُعرف في التنظير السياسي بـ”التموضع الاستراتيجي السيادي”. هذا التموضع ليس انسحاباً من المسرح، بل انخراط فاعل وفق معايير جديدة تحكمها المصلحة السيادية، لا الإملاءات الأيديولوجية أو ضغوط التحالفات. السعودية لم تَعُد ورقة تُستخدم في مفاوضات كبرى، بل أصبحت طاولة بحد ذاتها، تتقاطع عليها المصالح، وتُعاد عبرها صياغة الاصطفافات. ثانياً: زيارة خالد بن سلمان إلى طهران تمثل زيارة الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي إلى طهران تحولاً مفصلياً في الفكر الأمني السعودي، لا بوصفها خطوة دبلوماسية اعتيادية، بل ترجمة ميدانية لتحول استراتيجي أعمق في عقيدة الردع والتعامل مع التهديدات الإقليمية. هذه الزيارة تعكس انتقالاً من نموذج “العداء الهيكلي” إلى مقاربة جديدة يمكن تسميتها بـ”الاحتواء التفاعلي”، حيث يُعاد تعريف العلاقة مع الخصوم الإقليميين على قاعدة التفاوض من موقع الندية، لا الاستتباع أو التصعيد. إن تولي وزارة الدفاع إدارة هذا الملف الأمني المعقد – بدلاً من حصره في قنوات الخارجية – يُعبّر عن إعادة هيكلة متقدمة في بنية اتخاذ القرار الأمني السعودي. لم يعد الأمن الإقليمي يُدار من الهامش، بل أصبح في صلب العقيدة الدفاعية الجديدة، التي تمزج بين أدوات الردع العسكري وأدوات التفاعل السياسي، بين الحضور السيادي والانفتاح المدروس. بهذا المعنى، تتجاوز زيارة الأمير خالد الأطر البروتوكولية المعتادة؛ إنها إعلان صريح عن عقيدة أمنية سعودية متجددة، تقوم على مبدأين متلازمين: – الردع بالتواصل: أي امتلاك القدرة على الحسم، دون إغلاق قنوات الحوار. – الدبلوماسية من موقع الندية: أي استخدام الانفتاح كأداة قوة لا كتنازل. هذه المقاربة تبعث برسائل استراتيجية مزدوجة: إلى إيران: أن الرياض لم تعد ترى طهران كخصم وجودي، بل كمنافس يمكن ضبط سلوكه عبر قواعد توازن مدروسة. إلى واشنطن وتل أبيب: أن مرحلة التبعية في صياغة الموقف الأمني السعودي قد انتهت، وأن القرار السيادي في الرياض بات يُبنى وفقاً للمصالح الوطنية، لا الحسابات الخارجية. إنها لحظة تُجسّد التحول من أمن الوصاية إلى أمن السيادة. فالسعودية لا تعيد فقط ترتيب علاقاتها الإقليمية، بل تعيد تشكيل منطق التفاعلات الأمنية برمّته. وهذه هي السمة الأبرز للجيل الجديد من صناع القرار في الرياض: عقلانية القوة بدل التبعية، وبناء التوازنات بدل تكريس الاستقطاب. ثالثاً: القلق الإسرائيلي المتصاعد الاتفاق النووي المزمع بين السعودية والولايات المتحدة، وتمكين السعودية من تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، والذي لا يتضمن شروطاً تتعلق بالتطبيع مع إسرائيل، يُشكل سابقة دبلوماسية غير معهودة، ُولحظة مفصلية في التاريخ الأمني الإقليمي. ليس لكونه خرقاً تقنياً فحسب، بل لأنه يسحب من إسرائيل الذريعة الأزلية لابتزاز الغرب والعرب على السواء. إسرائيل ترى في هذا التطور انقلاباً على عقيدتها ومرتكزاتها الأمنية التي اختزلت التهديد وأحتكرت خطاب “الخطر النووي”. في إيران وحدها، وحشدت عبره الدعم لعقود. الرسالة الآن واضحة: إذا كان من حق السعودية التخصيب، فلماذا يُمنع عن إيران؟ بهذا المعنى، تفقد إسرائيل احتكارها للرواية الأمنية. رابعاً: الإمارات والاختلال الخليجي تواجه المملكة العربية السعودية تحديات متزايدة ضمن محيطها الخليجي، في مقدمتها السلوك الإماراتي المتسرع والمتسارع نحو سياسات خارجية توسعية تعبث بعدد من الملفات الحساسة، مثل ليبيا واليمن والسودان والقرن الإفريقي. هذا الانخراط المتشعب لا يشكل مجرد تباين في الرؤى، بل يمثل تحولاً بنيوياً في التوازنات الإقليمية، ما يُنذر بتقويض البنية الأمنية الخليجية وإضعاف مركز الثقل الذي طالما مثّلته الرياض في المعادلة العربية. في هذا السياق، لم تعد المملكة في موقع المتفرج أو المهادن، بل تجد نفسها مضطرة لتبني عقيدة دفاعية جديدة تستوعب المتغيرات وتحتوي التحديات. هذه العقيدة تقوم على مبدأ “الردع الصامت” بوصفه أداة استراتيجية لضبط السلوك المنفلت دون الانزلاق إلى مواجهات مباشرة، إلى جانب “إعادة ضبط التموضع العسكري والاستخباراتي” بما يعزز الجاهزية من جهة، ويبعث برسائل غير معلنة ولكن واضحة من جهة أخرى. |