نهلة الدراجي «هيهات منا الذلة». لم تكن تلك الكلمات مجرّد شعار لحظة أو صرخة رجل غاضب، بل كانت صرخة تاريخ، وموقف أمة، وتجسيداً لمعنى الكرامة حين تُسلب، والحق حين يُغتال، والإنسان حين يُهان. ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن معركة سيف ضد سيف، بل كانت مواجهة بين الحق والباطل، بين الكرامة والذل، بين النور والظلام. لقد خطَّ الحسين عليه السلام بدمه الشريف ملحمة خالدة، أضاءت دروب الأحرار، ورسخت في وجدان الإنسانية معنى التضحية من أجل المبدأ، والرفض المطلق للعبودية والاستسلام. وقف الإمام الحسين عليه السلام وقفة الحُرّ الأبيّ، معلنًا رفضه المطلق للذل والانقياد لسلطة جائرة، ضاربًا بذلك أروع أمثلة الصبر والثبات، ومؤكدًا أن الكرامة لا تُشترى، وأن الإنسان لا يساوم على مبادئه مهما عظمت التضحيات. لم تكن ثورته مجرد خروج على طاغية، بل كانت تمردًا أخلاقيًا هائلًا على كل أشكال الظلم والاستبداد، ودعوة خالدة للإنسانية أن تنهض، أن ترفض، أن تقول «لا» في وجه الجور، ولو كان الثمن الحياة نفسها. لقد قالها الحسين عليه السلام بوضوح لا لبس فيه: «إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي». وهذا الإصلاح لم يكن محصورًا في حدود الأمة الإسلامية، بل امتد ليصبح منهجًا عالميًا، ومصدر إلهام لكل المضطهدين والمستضعفين في الأرض. فالحسين، بثورته، لم يُحرّر رقاب قوم، بل حرّر ضمائر الشعوب، وزرع في وجدانهم بذور الشجاعة والإباء. إن ثورة الحسين عليه السلام حيّة في ضمير العالم، تستنهض القلوب النابضة بالحق، وتلهم الملايين أن لا يصمتوا على الظلم، ولا يهادنوا الطغيان، ولا يبيعوا إنسانيتهم بثمن بخس. وما أبلغ الدرس حين نراه متجليًا اليوم في وجوه المظلومين في كل بقاع الأرض، وما أروع أن نستلهم من الحسين عليه السلام تلك القيم السامية: الصبر في وجه المحن، الثبات على المبدأ، الإيمان بالحق، والتضحية في سبيل الكرامة. فالحسين لم يكن رجل معركة فحسب، بل كان مشروعًا إنسانيًا متكاملًا، مدرسةً في الحرية، ومحرابًا للكرامة، ومنارةً للعدل. ثورة الحسين ليست مجرد ذكرى نحييها، بل مسؤولية نتحمّلها. مسؤولية أن نكون أوفياء للدماء الطاهرة التي سالت من أجل أن نعيش أحراراً. مسؤولية أن نحفظ الرسالة، ونكمل الطريق، ونصون الوطن من كل يدٍ تمتد إليه بسوء. ولنكتب، كما كتب الحسين، بدمه، أن الإنسان أغلى من العروش، وأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع يا حسين، ما زالت صرختك تهزّ ضمائرنا: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة»، وما زلنا نرددها معك، في كل زمان ومكان، نرفعها رايةً في وجه كلّ من أراد لهذا الوطن أن يُذل، أو يُهان، أو يُباع. سلامٌ عليك يا أبا الأحرار، يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تبعث حيًّا... وسيبقى دمك يا حسين، نبراسًا يضيء دروب الباحثين عن الكرامة، وجرس إنذار في آذان الطغاة أن لا خلود لعرشٍ بُني على الظلم. فسلامٌ على كربلاء... وسلامٌ على الحسين. |