الدكتور ليث شبر لم يكن التقاعد، في يوم من الأيام، نهاية لمسيرة الإنسان، بل هو بداية جديدة تتيح له أن يضع خلاصة تجربته ومعرفته في خدمة المجتمع. وإذا كان المتقاعد العادي ينشغل بضمان حياته المعيشية وما تبقى من صحته، فإن المتقاعد الأكاديمي – بما يحمله من رصيد علمي، وتجربة تدريسية أوخبرة إدارية، واحتكاك مباشر بالجيل الصاعد – يُعدّ ثروة وطنية لا تقل قيمة عن أي ثروة مادية. في الدولة المدنية الذكية السيادية النابضة، لا ينتهي دور الأكاديمي بمجرد أن تُطوى سنوات خدمته الإدارية في الجامعة أو المعهد أو الوزارة أو المؤسسة التي يعمل بها، بل يبدأ دوره الأوسع في صياغة السياسات التعليمية، ورسم خطط البحث العلمي، وتقديم الاستشارات الفكرية والاقتصادية والتقنية للدولة. فالمجتمع لا يستطيع أن يستغني عن عقل راكم خبرة أربعين أو خمسين عاماً من القراءة، والبحث، والتدريس، والعمل الإداري والفني والتفاعل مع أجيال متعددة. إن المتقاعد الأكاديمي هو ذاكرة معرفية حيّة، ومرآة لتاريخ التعليم والتربية والقيادة والتفكير في البلد. غير أن ما نراه في الواقع أن الكثير من هؤلاء يُتركون على الهامش، وكأنهم أصبحوا خارج الزمن، في حين أن الدول الحية تجعل منهم مجالس فكرية دائمة، ومجامع استشارية، ومراكز بحوث متقدمة. هنا تتجلى الفكرة الأساسية في مشروعنا: أن الدولة المدنية النابضة ليست دولة تُقصي أو تُهمّش، بل هي دولة تحوّل كل طاقة كامنة إلى طاقة منتجة. ولعلّ الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن أعداد المتقاعدين في العراق قد تجاوزت أربعة ملايين متقاعد، لعل القسم الأكبر منهم من الأكاديميين والخبراء الذين ما زالوا يحتفظون بطاقة فكرية وصحية تؤهلهم للإنتاج والابتكار. إن تجاهل هذه الكتلة البشرية الهائلة، وتركها تحت رحمة الرتابة والروتين، يعني خسارة فادحة لفرص التنمية. أما استثمارها فسيكون أشبه بإعادة ضخ دماء جديدة في جسد الدولة، إذ يمكن تحويلها إلى قوة استشارية وعلمية وإبداعية تنهض بالمجتمع وتسد فجوة الكفاءات. وإذا نظرنا إلى تجارب دول متقدمة مثل ألمانيا واليابان، نجد أن المتقاعدين الأكاديميين هناك لا يُتركون للفراغ، بل يُعاد دمجهم في مراكز أبحاث، ومجالس سياسات، ولجان تقييم، وحتى في مشاريع صناعية وتقنية. هذا التكامل بين الخبرة المتراكمة والحاجات المعاصرة هو ما يجعل تلك الدول أكثر قدرة على الاستمرار في التقدم، ويُعيد الاعتبار إلى قيمة الزمن البشري بوصفه رأس المال الأثمن. إننا حين نضع المتقاعد الأكاديمي في قلب الدولة المدنية الذكية السيادية النابضة، نؤكد أن الزمن لا يُقاس بالعمر فقط، بل بالنبض المستمر للفكر والعطاء. فالخبرة ليست عبئاً على الدولة، بل ضمانة لوعيها واستقرارها، وبوصلتها نحو المستقبل. ومن هنا نقترح تأسيس مجلس وطني للمتقاعدين الأكاديميين أو بنك خبرات، أو أي مؤسسة ذكية تمكنهم من أداء دورهم في الإنتاج والابتكار وقيادة المجتمع .. فهل من سميع مجيب.. |