طه حسن الاركوازي لم يعد الغدر ( الأمريكي – الإسرائيلي ) مجرد أتهام يتداوله خصوم واشنطن وتل أبيب ، بل حقيقة تتكرر مع كُل أزمة كبرى ، الضربة التي طالت قلب الدوحة لم تكن مجرد عملية عسكرية ، بل رسالة صارخة بأن التحالفات والاتفاقيات والضمانات الأمنية ليست سوى أوراق مؤقتة تُستخدم ما دامت المصالح قائمة، ثم تُلقى جانباً عند أول أنعطافة ، فالتجارب أثبتت المقوله ” إن أمريكا لا تمتلك صداقات دائمه ، بل مصالح مستمره” .؟ كما أن هذا الحدث أعاد بقوة إلى الأذهان العبارة الشهيرة للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك : “المتغطي بأمريكا عريان”، وهي عبارة تختصر عقوداً من التجارب المريرة لأنظمةٍ وشعوبٍ راهنت على أن واشنطن ستقف معها حتى النهاية ، فإذا بها تكتشف عريها ووحدتها في لحظة الحقيقة ، لقد جاءت ضربة الدوحة لتكشف تلك الحقيقة المُقلقة مجدداً ، بعد كُل ما قدمته قطر وباقي الدول الخليجية من أموال وولاءات وخيانات لأشقائها وقواعد أمريكية : “أن التحالف مع الولايات المتحدة أو الاحتماء بعلاقاتها لا يشكل ضمانة لا لأمن الدول ولا لصورة قادتها” ، فالدوحة التي أعتقدت أنها مُحصنة بموقعها كوسيط موثوق لدى واشنطن وجدت نفسها فجأة في مرمى النيران ، وليس ثمة شك في أن الإدارة الأمريكية كانت على علم مسبق بالضربة ، بل ثمة مؤشرات على أنها قدمت غِطاءاً أو دعماً لوجستياً لها ، في رسالة ( أمريكية-إسرائيلية ) مزدوجة مفادها أن “لا خطوط حمراء” حتى داخل بيت الحُلفاء .؟ هذه الرسالة لم تكن جديدة في مضمونها ، لكنها جاءت لتذكّر بمسار طويل من التجارب المريرة مع واشنطن ، فالرئيس المصري أنور السادات الذي راهن على أتفاقية “كامب ديفيد” وظن أنه ضمن حماية أمريكية ، وجد نفسه معزولًا عربياً ومكشوفاً دولياً ، قبل أن يسقط أغتيالًا على يد أبناء بلده ، من بعده جاء حسني مبارك ، الذي قدّم خدمات كبرى للولايات المتحدة وحافظ على أتفاق السلام مع إسرائيل ، لكنه حين أهتز عرشه في 2011 ، لم يجد من البيت الأبيض سوى تخلٍ بارد أختُصر في عبارة “حان وقت الانتقال” .؟ وسبقهم الشاه “محمد رضا بهلوي” ، الذي أنفق عقوداً يخدم المشروع الأمريكي في المنطقة ، لكنه طُرد من بلاده ولم يجد من واشنطن سوى صد الأبواب في وجهه حتى وفاته في المنفى . التاريخ القريب يُقدم شواهد إضافية ، فزين العابدين بن علي ، الذي حكم تونس بالولاء المطلق للغرب وقمع شعبه بأسم “الاستقرار”، تُرك يواجه مصيره منفرداً حين أنفجرت الثورة ، فلم يجد له حليفاً ولا منقذًا . وفي أفغانستان ، أنفقت أمريكا مليارات الدولارات على حكومة كابول وبنت جيشاً كاملًا تحت مظلتها ، لكنها أنسحبت فجأة عام 2021 تاركة الحلفاء ينهارون أمام طالبان خلال أيام معدودة . وفي العراق ، المثال لا يقل وضوحاً : فبعد عام 2003 صيغت أتفاقيات “تحالف أستراتيجي وأمني مع واشنطن” ، غير أن الانسحاب الأمريكي عام 2011 كشف عن حقيقة مرة ، حيث تُرك العراق في فراغ أمني رهيب مكّنه من الانزلاق نحو الفوضى وصعود تنظيم داعش لاحقاً ، فهل كان هذا تحالفاً أم أستثماراً مؤقتاً مفاده “أنتهى بأنتهاء المصلحة” .؟ ضربة الدوحة جاءت لتؤكد أن الدول التي تظن نفسها في مأمن تحت عباءة واشنطن أو من خلال التطبيع مع إسرائيل ، إنما تراهن على سراب ، فالولايات المتحدة لا تملك سجلًا في الوفاء لحلفائها ، بل العكس ، فتاريخها حافل بتركهم عراة في مواجهة شعوبهم أو خصومهم حين تتغير الحسابات ، وهذا ما يجعل مقولة حسني مبارك الخالدة : “المتغطي بأمريكا عريان” تختصر ببلاغة عقوداً من التجربة المريرة . المشهد الحالي يطرح تساؤلات حادة أمام قطر ودول أخرى سارت في طريق التطبيع أو ربطت أمنها كُلياً بالولايات المتحدة ، هل ستعيد حساباتها بعد أن أدركت أن المكان الآمن لم يعد موجوداً ، أم أنها ستكتفي بتصريحات غاضبة ثم تعود إلى المسار ذاته ، في المقابل ، قوى المقاومة ستوظف هذا الحدث لتأكيد أن الرهان على واشنطن أو تل أبيب ليس خياراً أستراتيجياً ، بل وهم قصير الأمد ينتهي بتكلفة فادحة . أما العراق ، فهو أكثر من يجب أن يقرأ هذا الدرس بتمعن ، بلد أنهكته التجاذبات الخارجية ، وبنى أمنه وسياساته لعقدين على رهانات متناقضة ، يجد نفسه اليوم أمام مثال جديد يثبت أن الاعتماد على الخارج ، مهما كان لونه ، لا يُغني عن بناء القوة الذاتية والسيادة الحقيقية ، فكلما زاد الارتهان للخارج ، زاد أنكشاف الداخل ، وأصبحت الدولة أقرب إلى “الورقة المحروقة” في أي لحظة تتغير فيها المصالح الدولية . أخيراً وليس آخراً .. لقد علمنا التاريخ أن واشنطن لا تحفظ عهداً طويلاً مع حلفائها “من السادات إلى مبارك ، ومن الشاه إلى بن علي ، ومن حكام كابول إلى الساسة في بغداد” ، النتيجة واحدة ، واليوم جاء دور الدوحة لتكشف للعالم أن العبرة لم تُستخلص بعد ، إن ضربة واحدة كشفت أن الأمن لا يُستورد ، والسيادة لا تُشترى ، وأن من يظن نفسه محمياً بالتحالفات الخارجية ، إنما يُعري نفسه عند أول هزة مصالح ، الرسالة أوضح من أن تُتجاهل : “المتغطي بأمريكا عريان” ، ومن لا يبني قوته من الداخل ، سيبقى مكشوفاً مهما علا غطاؤه …! |