محمد شريف ابو ميسم تنطوي علاقة المواطن بالدولة على كثير من الحقوق والواجبات في سياق مفهوم المواطنة، ولكنها قد تتخطى هذا المفهوم بين الأفراد بحسب الظروف الموضوعية، التي ترسخ الانتماء الوطني من عدمه، وغالبا ما يكون الانسان في أعلى حالاته العاطفية ازاء وطنه حد الإيثار والتضحية بالنفس، من أجل المصلحة العامة أو الدفاع عن الأرض والعرض وهو يعيش في دولة يتحقق فيها الحد الأدنى من العدالة، أو حد النكوص عودا الى الذات والأنانية في ظل الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة التي تنتهك فيها الحريات وتنعدم فيها العدالة الاجتماعية. وعادة ما يكون سلوك التجمعات البشرية في حدود الدولة التقليدية نتاجا لإرث اجتماعي وتحولات ثقافية سابقة، وعادة ما يأخذ سلوك الفرد شكل الوعاء المجتمعي الناتج عن التشكيلة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمخضت عن تلك المراحل. وعلى الرغم من حالة الانفتاح على العالم، التي فرضتها أدوات العولمة الثقافية في عموم بقاع المعمورة، إلا أن حدود الممارسات الفردية تبقى قائمة بحسب تأثير الموروثات وما خلفته المراحل السابقة على الانسان إلا في نطاق الصراع القائم بين حجم المؤثرات على الغرائز ورغبات الاستهلاك جراء صعود تأثير أدوات العولمة الثقافية التي تستهدف الأجيال الجديدة من جانب، والأنا الأعلى الذي يتشكل بموجب مجموعة الموروثات والعادات والتقاليد والقيم من جانب آخر، اذ يبقى هذا الأخير بوصفه الرقيب حتى في حدود الدولة التقليدية الفاشلة التي تتفشى فيها ظواهر الفساد، وعلى ذلك تتشكل الممارسات الفردية بوصفها سلوكيات حمائية وذاتوية تتكيف مع شكل البيئة المجتمعية الجديدة، لتنتج نمطا سلوكيا جمعيّا يصطدم في كثير من الأحيان بالأنا الأعلى حد الصراع الذي قد يتبلور عنه رأي جمعي جديد متمرد على المألوف والموروثات. إلا أن استمرار الحال على ما هو عليه بصعود مؤثرات أدوات العولمة الثقافية، يدفع وبالضرورة باتجاه الصراع بين الطارئ الثقافي والسلوكي وبين الموروثات بوصفها معتقدات مختلف عليها في ظل غياب المواطنة وانعدام العدالة الاجتماعية، فتنبري حالة عدم الثقة بشكل الدولة ونظامها السياسي، وتتصاعد الممارسات الفردية الخارجة عن المألوف، وتبقى محاولات إصلاح الشكل المشوه في علاقة المواطن بالدولة في حدود عدم النجاح حتى وان استطاعت الدولة تقديم مستوا جيدا من الخدمات. بيد أن التجارب العالمية في الدول الليبرالية، التي انخرطت في المنظومة التي تقودها رساميل الشركات التي تحكم العالم خلال الثلاثة عقود الأخيرة، قدمت لنا العلاقة بين المواطن والدولة بعيدا عن منظومة القيم والأخلاق والثقافات التي تصنع الوطنية والانتماء الى الأرض، اذ تبدو هذه العلاقة قائمة على أدوات الدولة في ضبط ايقاع الحياة وبرمجة متغيراتها، عبر جهاز تنفيذي تختزل فيه حلقات الترهل الاداري، وجهاز أمني قوي يطارد الجريمة التي تتنوع بحسب طبيعة الدولة وطبيعة التشكيلات الطبقية وموقعها على خارطة الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات، بجانب وجود جهاز مصرفي يعتمد أساليب الدفع الالكتروني في التعاملات والتبادلات التجارية والمالية، ومنظومات مراقبة تنتهك الخصوصيات في الشوارع وأماكن العمل والمدارس والفنادق والمناطق السياحية، وحتى في كثير من الوحدات السكنية. وليس للمواطنة دورٌ في تشكيل هذه العلاقة، الا في حدود الدولة الكنزية، أو ما يسمى بدولة الرفاه التي صنعتها بعض دول التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية للحد من تمدد الشيوعية الى مساحة أوربا الغربية بعد اجتاح الجيش الأحمر شرق أوربا واقامة النظم الاشتراكية فيها. وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية في العام 1991، ما عادت هنالك ضرورة لوجود دولة الرفاه القائمة على ضرائب الشركات، وبدأت هذه الدولة بالتآكل شيئا فشيئا، بعد أن باتت الحرية الليبرالية مطلبا رئيسيا للشركات التي تحكم العالم. |