قاسم الغراوي يستحضر الخطاب السياسي في العراق، خلال حقبة البعث، مفردات “المؤامرة” و”الخيانة” و”الغدر” بوصفها مفاتيح تفسير جاهزة لكل أزمة أو خصومة أو صراع داخلي. غير أنّ هذا الخطاب، الذي قدّمه النظام باعتباره سياجاً لحماية الدولة ودرعاً للحزب وقائداً للأمة، كان في جوهره انعكاساً لبنية السلطة نفسها، لا أداة دفاع عنها. فالنظام الذي أكثر من الحديث عن خصوم متآمرين، كان هو الأكثر ممارسة لفعل التآمر، حتى بدا تاريخ سلطته سلسلة متصلة من الانقلابات والإقصاءات والتصفيات التي جعلت من “الولاء” معياراً للنجاة، ومن “الخطر الداخلي” ذريعة دائمة لشرعنة العنف السياسي. منذ بدايات صعود البعث، لم يكن العمل السياسي منفصلاً عن منطق الاغتيال والانقلاب. فالعملية التي نفّذها جناح الحزب بقيادة صدام ضد عبد الكريم قاسم عام 1959 شكّلت أولى إشارات هذا المسار، حيث اختلطت فيها الحسابات السياسية بالعمل المسلّح المنظم، وجرى تقديمها لاحقاً بوصفها بطولة مقابل النظام، رغم أنّها كانت نمطاً واضحاً من أنماط التآمر على سلطة قائمة. ثم جاء انقلاب 1963 ليؤكّد أنّ البكر وصدام وقيادة الحزب لم يكونوا يختلفون عن غيرهم في استخدام العنف للوصول إلى الحكم، إذ شاركوا في إسقاط قاسم، ثم دخلوا في صراعات داخلية أنهت وجودهم في السلطة لبضعة أعوام قبل أن يعودوا عام 1968 بعملية انقلابية أخرى ضد عبد الرحمن عارف، وهي عملية قُدّمت أيضاً تحت عنوان “التصحيح” لكنها حملت كل سمات التدبير السري والتواطؤ والمناورة. لم يتوقف التآمر عند حدود السيطرة على الدولة، بل استمر داخل بنية الحكم نفسها. ففي 30 تموز 1968، أطاح البكر وصدام بعبد الرزاق النايف بعد أسابيع من مشاركته لهم في الانقلاب، في واحدة من أكثر العمليات السياسية ترويعاً في تاريخ العراق الحديث، حيث استُدرج الرجل إلى “دعوة غداء” لانتزاع سلطته. وبعد عقد من الزمن تقريباً، تمت تصفيته في لندن، ليغدو مثالاً صارخاً على أنّ النظام كان يطارد خصومه حتى خارج الحدود. ولم يكن النايف وحده؛ فحردان التكريتي، أحد أهم رجال الانقلاب، تعرّض للإقصاء ثم الاغتيال في الكويت عام 1971، في رسالة واضحة لكل من يخدم المنظومة بأنّ النهاية قد تكون أقرب ممّا يتخيل. استمرّت تصفيات الداخل بوصفها قاعدة حكم، لا استثناء. فقد مُلئ سجن النهاية في السبعينيات بضحايا النزاعات الحزبية، وراح فيه قادة بعثيون كبار مثل فؤاد الركابي، كما تعرض عبد الخالق السامرائي وعبد الرحمن البزاز وغيرهم لصراعات دموية انتهت بالإخفاء أو الاحتجاز أو الإعدام. ومع اقتراب نهاية عهد البكر، لم يتورع صدام عن استخدام الأدوات نفسها ضد الرجل الذي أتاح له الصعود، فأُزيح البكر بطريقة أقرب إلى الإطاحة الصامتة، وجرى تقديم صدام باعتباره القائد الضروري لحماية العراق من “المؤامرات”. وما لبث أن افتتح عهده بمجزرة قاعة الخلد عام 1979، حيث أعدِم أكثر من خمسين من أبرز قيادات الحزب في مشهد مسرحي هدفه تثبيت الخوف قبل تثبيت السلطة. وفي الحرب مع إيران، لم يكتفِ النظام بتقديم المواجهة بوصفها صراع وجود ضد “تآمر خارجي”، بل جعل من أي إخفاق عسكري فرصة لتصفية ضباط جيشه، فحُوكم كثير منهم ميدانياً بتهم التخاذل أو الخيانة، رغم أنّ القرارات السياسية العليا للحرب كانت غالباً هي التي أوصلت الجبهات إلى الانهيار. وبعد حرب الخليج 1991، تكررت التجربة مع ضباط كبار مثل بارق الحاج حنطة وعصمت صابر، إذ اعتُبروا مقصّرين أو متآمرين فقط لأنهم خسروا معارك فرضتها ظروف كارثية. هذا السجل الطويل يجعل خطاب “المؤامرة” الذي رفعه النظام طوال 35 عاماً أقرب إلى قناع يستخدمه لتبرير ممارساته أكثر منه توصيفاً لواقع موضوعي. فالتآمر لم يكن فعلاً موجهاً من الخارج بقدر ما كان نمطاً ذاتياً لإدارة السلطة: آلية للضبط، ووسيلة للتهديد، وأداة لتصفية كل من تظهر عليه بوادر استقلال أو كفاءة أو نفوذ. وعندما يسأل العراقي اليوم عن أي تآمر كان يتحدث النظام، فإن الإجابة تبدو جلية: لقد كان النظام يتحدث عن نفسه من حيث لا يدري؛ كان يخشى ظله، ويرى في كل شخصية قوية مشروع منافس، وفي كل اختلاف بداية خيانة، وفي كل نقد مؤشراً لمؤامرة. أما الذين يتحدثون اليوم بلسان النظام نفسه، ويحاولون إعادة إنتاج سردياته، فإنهم يواجهون معضلة أخلاقية وتاريخية. فكل الوقائع الموثقة تشير إلى أنّ بنية البعث في عهد صدام كانت قائمة على الغدر أكثر من أي شيء آخر، وأنّ المصطلحات التي استخدمتها السلطة كانت وسيلة لتوجيه الاتهام للآخرين بينما كانت تمارس هي الفعل ذاته بأشكاله المختلفة. لقد أصبح “التآمر” كلمة يستخدمها الأقوى لاتهام الأضعف، بينما كان التاريخ الحقيقي يسجّل أنّ التآمر الأكبر وقع داخل أروقة البعث، لا خارجه. بهذا المعنى، فإن مراجعة الحقبة لا تكشف فقط عن حجم العنف الذي مارسه النظام، ضد خصومه وهم الاقرب للسلطة وكذلك ارهاب الشعب العراقي وزجه في حروب وتدميره، تلبية لرغباته الشخصية انما تكشف عن هشاشة شرعيته، وعن خوفه المزمن من أي منافس محتمل، وعن استعداده الدائم لإسقاط أقرب الناس إليه. والنتيجة أنّ نظاماً قدّم نفسه حامياً للوطن من المؤامرات، كان في الحقيقة أكبر مصدر لها، وكان جوهر ممارساته هو التآمر على الدولة نفسها، قبل أن يكون ضد خصومه. |