محمد عبد الجبار الشبوط تقدم التجربة السياسية العراقية بعد 2003 مثالًا واضحًا على المفارقة البنيوية في نموذج “الدولة المكوّناتية” الذي تأسس على مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية. فرغم أن هذا النموذج يفترض أن يكون لكل مكوّن أساسي كتلة سياسية متماسكة تمثل رؤيته داخل النظام، إلا أن الأحزاب الشيعية، بوصفها ممثلًا للمكوّن الأكبر عددًا، أخفقت في تشكيل حزب سياسي واحد قوي يتحدث بصوت موحد ويطرح رؤية متماسكة. وقد أدى هذا الإخفاق إلى ضعفٍ ملحوظ في الأداء السياسي العام، وإلى ضياع الكثير من المصالح ضمن النظام الذي صُمّم أصلاً ليكون قائمًا على معادلة “المكوّنات”. وتكشف قراءة الظاهرة أن المشكلة لا تكمن في حجم المكوّن ولا في وزنه العددي، بل في طبيعة البنية السياسية التي نشأت داخل المكوّن نفسه. فبينما استطاعت المكوّنات الأخرى الأصغر حجمًا أن تنتج جبهات أو أحزابًا متماسكة نسبيًا، بقي الفضاء السياسي الشيعي مشرذمًا إلى قوى متعددة تحمل الخطاب نفسه تقريبًا، لكنها تتحرك وفق مصالح متنافرة وزعامات متنافسة. وهكذا نشأ تناقض داخلي جوهري: نموذج يقوم على المكوّنات يتطلب وحدة داخل كل مكوّن، لكن أكبر هذه المكوّنات لم يستطع تحقيق هذا الشرط. ويرجع هذا الإخفاق إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها أن الانقسام بين القوى الشيعية لم يكن يومًا انقسامًا أيديولوجيًا أو فكريًا، بل كان في جوهره صراعًا على الزعامة والنفوذ وبسط السيطرة على مؤسسات الدولة. ولأن نموذج المحاصصة يمنح لكل طرف نصيبه من الدولة، فقد تحولت الزعامة الحزبية إلى غاية بحد ذاتها، وأصبح الحفاظ على الاستقلال التنظيمي لكل حزب أهم من بناء مشروع سياسي موحد. كما أسهمت الارتباطات الإقليمية المختلفة في تعميق خطوط الانقــــــسام بدل توحيدها، فكل طرف وجد في حاضنته الخارجية سندًا يغــــنيه عن الاندماج في كيان سياسي أكبر. ويضاف إلى ذلك غياب مشروع فكري جامع يعلو على منطق الزعامات، فالدولة المكوّناتية ليست مشروعًا للدولة بقدر ما هي صيغة لإدارة السلطة. وعندما تكون السياسة مجرد توزيع حصص لا بناء نظام، فإن الاندماج لا يخدم مصالح الأطراف المتنافسة. لذلك بقي خطاب وحدة “الرؤية الشيعية” شعارًا عامًا غير قابل للتحقق، لأنه يتطلب تنازلًا في النفوذ لم تقدّم عليه أي من القوى الفاعلة. ونتج عن هذا التشتت أن فقد المكوّن الأكبر قدرته على فرض رؤيته داخل النظام السياسي، وأصبح يُعامل على قدم المساواة الشكلية مع المكوّنات الأخرى الأصغر حجمًا، لا على أساس حجمه الحقيقي في المجتمع. وهذه “المساواة” التي تبدو عادلة في ظاهرها، تنطوي في الواقع على ظلم بنيوي ناتج من ضعف التمثيل السياسي، لا من خلل في التوازن الديموغرافي. فالمكوّن الذي يفشل في إنتاج قوة سياسية موحدة يفقد القدرة على حماية مصالحه داخل نموذج يقوم أساسًا على مبدأ التمثيل المكوّناتي. وتكشف هذه المفارقة أن المشكلة أعمق من أداء الأحزاب، وأنها مرتبطة بطبيعة النموذج نفسه. فالدولة المكوّناتية بطبيعتها تشجع الانقسام داخل المكوّنات لأنها تربط السياسة بالهوية لا بالمواطنة، وبالحصص لا بالمؤسسات. وفي المقابل، يقدّم نموذج الدولة الحضارية الحديثة بديلًا جذريًا لهذه الأزمة، إذ يعيد بناء الفضاء السياسي على أساس الديمقراطية والمواطنة والقانون والعلم الحديث، بحيث تتراجع الهويات الفرعية إلى الخلف، وتبرز البرامج والرؤى والمشاريع باعتبارها أساس التنافس السياسي. وتبعًا لذلك، فإن فشل الأحزاب الشيعية في تشكيل حزب واحد قوي لا يمثل مجرد خلل في إدارة المكوّن، بل يعد دليلًا على أزمة أعمق في نموذج الدولة المكوّناتية نفسه، الذي أثبت عجزه عن إنتاج استقرار سياسي حقيقي أو تمثيل فعلي للهويات التي يدعي التعبير عنها. أما الطريق نحو تجاوز هذه الأزمة فيكمن في الانتقال إلى نموذج حضاري حديث يعيد تعريف الانتماء السياسي على أساس المواطنة، ويحوّل التعدد من عامل صراع إلى مصدر ثراء، وينهي الحاجة أصلًا إلى التفكير بمنطق المكوّنات. |