أمين السكافي في الشرق الذي تتداخل فيه الأسطورة بالواقع كما تتداخل خيوط الضوء بالعتمة، وُلدت المقاومة. لم تولد من فائض الجيوش، ولا من وفرة السلاح، بل من ندبةٍ في الوعي، ومن وجعٍ اكتشف أن للكرامة صوتًا أعلى من المدافع. ومنذ تلك اللحظة، لم تكن المقاومة تنظيمًا أو بنية عسكرية فقط؛ كانت روحًا، وكانت فضاءً أخلاقيًا جديدًا يهجس بالحرية حتى وإن تكاثفت حوله ظلمات العالم. ولذلك، حين انتصرت المقاومة على كيانٍ كان يُقال إنه “لا يُهزم”، اهتزّت بنية المنطقة من جذورها. لم تهتزّ لأن جيشًا كُسر، بل لأن سرديّةً كاملة، بُنيت عليها عروش وممالك ومؤتمرات وجيوش من الكلمات، سقطت فجأةً دون ضجيج. وعندما يسقط الخطاب قبل أن يسقط السلاح، يصبح الحقدُ هو اللسان الوحيد للعاجزين. لماذا يبغضون المقاومة؟ لأنها كسرت النبوءة التي كانوا يقدّسونها: أنّ “الكيان قوّة مطلقة، والعرب ضعفٌ مطلق”. وحين ترتفع أرض الجنوب فوق هذه المعادلة، يصبح انتصارها فضيحةً للآخرين، فضيحةً لا يمكن طمسها، فتتجمّع سهامهم كلّها نحو الجرح الذي ذكّرهم بحقيقتهم. يبغضونها لأنهم رأوا فيها ما لم يروه في أنفسهم: رأوا رجلًا يرفع حجرًا فيرتفع معه التاريخ. رأوا شبابًا يخرجون من منازل من طين ليهزّوا عروشًا مبنيةً على الذهب. رأوا أن الكرامة ليست ترفًا سياسيًا، بل قُدرة على قول “لا” حين يتهامس الجميع بـ “نعم”. أما الكيان…فبغضه ليس لغزًا، بل غريزة مفهومة. فالكيان الذي هزم جيوشًا عربية كبرى على مدى عقود، وجد نفسه فجأة أمام قرى صغيرة تُسقط هيبته. أمام مقاتلين يخرجون من بين شجر التين والزيتون وحقول التبغ، لا يشبهون ما في كتب الاستراتيجيات، وأمام إرادة لا تفهم معنى “الردع” كما يفهمه الجنرالات في تل أبيب. إنّ الكيان لا يخشى الصواريخ، بل يخشى الرسالة: أنّ قوّته ليست مطلقة، وأنّ زمن الرعب الأحادي قد انتهى. وكل ما يناقض هذه الصورة يصبح في قاموسه “عدوًا وجوديًا”. ولذلك يغتاظ الكيان من المقاومة أكثر مما يخشى من أعظم الجيوش، لأن الجيش يُهزم في معركة، أما المقاومة فتغيّر تعريف الهزيمة ذاتها. وأما العرب الذين يعادونها… فأولئك ليسوا دولًا فقط، بل نفسًا يُرعبها أن ترى الحقيقة بلا ستار. فالوهم الذي عاشوه طويلاً ــ وهم الضعف، وهم الاستحالة، وهم أن الغرب يحميهم ــ انكشف لحظة تحرّكت المقاومة خارج القواعد. المقاومة قالت لهم ما لا يريدون سماعه: أنّ الهزيمة ليست قدرًا، وأنّ الخضوع ليس سياسة، وأنّ من ظنّوا أنفسهم “كبارًا” كانوا في الحقيقة تماثيل من جليد يذوب وينزوي ما أن تشرق الشمس . ولذلك، يثور غالبية العرب على المقاومة لا دفاعًا عن فلسطين، بل دفاعًا عن صورةٍ زائفةٍ صنعوها لأنفسهم. فالمقاومة تذكّرهم بأنهم تخلّوا، وبأنهم باعوا، وبأنهم نسوا. والإنسان لا يكره شيئًا ككرهه لمن يذكّره بما كان يجب أن يكون عليه. في العمق…إنّ هذا البغض ليس سياسيًا فقط، ولا طائفيًا، ولا جغرافيًا.. إنه بغضٌ وجوديّ. المقاومة هي “مرآة”، والكيان والجزأ الأكبر من العرب يهربون من صورتهم فيها. في المرآة تظهر الحقيقة: أنّ القوّة ليست ملكًا لأحد، وأنّ الإرادة قد تهزم السلاح، وأنّ الشعوب حين تستيقظ، تسقط معها خرائطٌ وممالك. المقاومة ليست مجرد بندقية.. هي قصيدة طويلة كتبتها الأرض حين ضاقت بالحكايات المزيّفة. هي الأسطورة التي لم تُصنع في الكتب، بل صنعتها أقدام الأطفال الراكضين خلف أحلامهم، وصوت الأمهات اللواتي يخبّئن الدموع كي لا يراها أبناؤهنّ قبل الذهاب إلى ميقات ربهم . ولذلك، سيبقى بغضهم لها شاهدًا عليها: شاهدًا على خوفهم، وعلى سقوط سرديّاتهم، وعلى أنّ انتصار المقاومة لم يهزم جيشًا فقط… بل هزم فكرة كاملة عن الشرق، ودفعها إلى إعادة تعريف نفسها من جديد.. إنّهم يكرهون المقاومة لأنّها انتصرت، ولأن انتصارها لم يكن مجرد حدث، بل كان زلزالًا وجوديًا أعاد ترتيب كل شيء: ن قيمة الإنسان، إلى معنى الأرض، إلى طبيعة القوة، إلى حقيقة من يملك الإرادة ومن يملك الوهم. وهكذا، سيبقى هذا البغض ــ مهما اشتدّ ــ جزءًا من حكاية أكبر: حكاية شعبٍ أراد الحياة بكرامة، فقاوم… وانتصر… وجعل الهزيمة تسقط من يد التاريخ كما تسقط ورقة خريفٍ لم يعد لها فصلٌ تلتحق. |