قاسم الغراوي لم تعد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تُدار بمنطق إدارة الأزمات أو احتوائها المؤقت، بل باتت تتحرك ضمن إطار إعادة تموضع استراتيجي واضح، يقوم على ترتيب المصالح الأميركية الصلبة بأدوات أكثر صراحة وأقل ازدواجية. الوثائق والمواقف الأخيرة تكشف أن واشنطن لم تعد مستعدة لدفع كلفة الفوضى الطويلة، ولا لتجاهل مصادر التهديد التي ترى أنها تمس أمنها وأمن حلفائها، وفي مقدمتهم إسرائيل، أو تعرّض تدفقات الطاقة وسلاسل التكنولوجيا العالمية للاهتزاز. التحول الأبرز في الموقف الأميركي يتمثل في الانتقال من سياسة الموازنة بين الخصوم الإقليميين إلى سياسة رسم خطوط حمراء محددة. لم تعد الولايات المتحدة تقبل بسياسات الغموض تجاه تمدد إيران الإقليمي أو تجاه الجماعات المسلحة العابرة لحدود الدولة، كما لم تعد تنظر إلى التطبيع العربي–الإسرائيلي كخيار ثانوي، بل كجزء من بنية النظام الإقليمي الجديد الذي تسعى إلى تثبيته. هذا التحول يعكس إدراكاً أميركياً بأن زمن إدارة التناقضات قد استُنفد، وأن المنافسة الدولية مع الصين وروسيا تفرض شرق أوسط أكثر انضباطاً وأقل قابلية للاشتعال. في هذا السياق، يصبح العراق إحدى الساحات الأكثر حساسية في معادلة المصالح الأميركية. فالعراق ليس خصماً مباشراً للولايات المتحدة، لكنه أيضاً ليس خارج دائرة تأثير الصراعات الإقليمية. صانع القرار العراقي يقف اليوم أمام اختبار بالغ التعقيد: كيف يحافظ على سيادة الدولة ويمنع تحويل أراضيه إلى ساحة تصفية حسابات، من دون الانجرار إلى اصطفافات حادة تُفقده هامش المناورة الذي اعتاد عليه خلال السنوات الماضية؟. التغير في الموقف الأميركي يقلّص هذا الهامش، ويدفع باتجاه مطالب أوضح تتعلق بحصرية السلاح بيد الدولة، وضبط العلاقة مع الفواعل غير الرسمية، وحماية المصالح الاقتصادية والطاقة العابرة للأراضي العراقية. غير أن هذا التحول لا يحمل فقط عناصر ضغط، بل يفتح أيضاً مساحات فائدة محتملة للعراق إذا ما أُحسن التعامل معه. فوضوح المصالح الأميركية يمنح بغداد فرصة لإعادة تعريف علاقتها بواشنطن على أساس المصالح المتبادلة لا التبعية السياسية. العراق، بحكم موقعه الجغرافي وثرواته واحتياجاته التنموية، قادر على توظيف الاهتمام الأميركي بالطاقة والتكنولوجيا في جذب استثمارات نوعية، ونقل خبرات، وتحقيق توازن في علاقاته الدولية، شرط أن يقدّم نفسه كدولة مستقرة وقادرة على حماية التزاماتها. كما أن التشدد الأميركي تجاه تهديد الممرات الحيوية ومصادر الطاقة ينسجم، من حيث المبدأ، مع مصلحة العراق في الاستقرار الإقليمي ومنع عسكرة اقتصاده وحدوده. فالدولة العراقية هي المتضرر الأول من الفوضى الأمنية والاقتصادية، وأي تقاطع بين متطلبات الأمن الأميركي وأولوية الاستقرار الداخلي يمكن أن يُستثمر سياسياً لصالح تعزيز سلطة الدولة، لا لإضعافها. في المحصلة، تكشف التغيرات في الموقف الأميركي عن شرق أوسط يُعاد تشكيله وفق منطق المصالح الصلبة لا التسويات المؤقتة. العراق ليس متلقياً سلبياً لهذا التحول، بل فاعل محتمل إذا ما امتلك رؤية واقعية تتجاوز الشعارات، وتقرأ التحولات الدولية ببراغماتية سيادية. الفائدة الحقيقية لا تكمن في الانحياز الكامل ولا في المواجهة المفتوحة، بل في تحويل وضوح المواقف الأميركية من عامل تهديد إلى أداة لإعادة بناء القرار الوطني على أسس الدولة، والمصلحة، والقدرة على المناورة الذكية. |