حديث رئيس الوزراء عن الموازنة الثلاثية جاء بلغة عقلانية هادئة تُظهرها كخيار اضطراري لضمان الاستقرار واستمرارية المشاريع الموازنة مهما بلغت دقتها، تبقى أداة إدارة لا أداة إصلاح ما لـم تُرفق برؤية واضحة لإعادة تعريف دور الدولة العدالـة الوظيفية في سلم الرواتب لـم تعد مطلباً نخبوياً بل تحولت إلى عنصر مركزي في وعي الموظف العراقي المستقبل العراقي / محمد النصراوي
لم يكن ظهور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في برنامج دينار حدثاً إعلامياً عابراً يمكن التعامل معه بمنطق التصريح والرد، بل جاء كخطاب اقتصادي سياسي مركب، يعكس طريقة تفكير الحكومة أكثر مما يعكس نتائج سياساتها، فالاقتصاد في العراق لم يعد ملفاً فنياً تديره الأرقام، بل مساحة اشتباك مفتوحة بين الدولة والمجتمع، حيث تتحول كل كلمة عن الموازنة أو سعر الصرف إلى اختبار للثقة قبل أن تكون شرحاً للسياسة. السوداني، في هذا اللقاء، بدا حريصاً على تقديم صورة حكومة واعية لتعقيد المشهد، مدركة لحجم التحديات، لكنها في الوقت ذاته تحاول الإمساك بالعصا من منتصفها، حديثه عن الموازنة الثلاثية جاء بلغة عقلانية هادئة، تُظهرها كخيار اضطراري لضمان الاستقرار واستمرارية المشاريع، لا كإنجاز استثنائي، غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته الظاهرية، يفتح بابا لتساؤل مشروع حول ما إذا كان تثبيت الإنفاق لثلاث سنوات يعالج أصل الخلل أم يؤجل انفجاره، خصوصاً في اقتصاد لم ينجح بعد في فك ارتباطه شبه الكامل بعائدات النفط. اللقاء لم يذهب بعيداً في مساءلة هذا الخيار، بل اكتفى بوضعه في إطار الحاجة الآنية، وهو ما يمكن قراءته سياسياً كرهان على عامل الوقت، لا على التحول البنيوي؛ فالموازنة، مهما بلغت دقتها، تبقى أداة إدارة لا أداة إصلاح ما لم تُرفق برؤية واضحة لإعادة تعريف دور الدولة، وتقليص تضخم الجهاز الوظيفي، وتحفيز القطاع الخاص، وهي عناوين غابت عن اللقاء أو وردت بشكل عابر لا يرتقي إلى مستوى التحدي القائم. في ملف سعر الصرف، قدم السوداني خطاب طمأنة مدروساً، مؤكداً الميل نحو الاستقرار وتجنب المفاجآت؛ هذا الخطاب، وإن كان مفهوما في سياق القلق الشعبي، إلا أنه بدا أقرب إلى إدارة المزاج العام منه إلى تقديم تصور نقدي شفاف حول حدود قدرة الحكومة على التحكم بالسياسة النقدية، فالحديث عن التثبيت لا يجيب بشكل كاف عن سؤال أعمق يتعلق ببنية السوق، وآليات التحويل، والقيود الخارجية التي لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على القرار المالي العراقي. النقد هنا لا يتعلق بما قيل، بل بما لم يُقل، فالاكتفاء بالطمأنة من دون فتح نقاش جدي حول كلفة هذا الخيار على المدى المتوسط، يضع الحكومة في موقع من يؤجل المصارحة، حتى وإن كان ذلك بدافع تجنب الهلع أو الفوضى، غير أن التجربة العراقية تُظهر أن الفجوة بين الخطاب والواقع حين تطول، تتحول من أزمة ثقة إلى أزمة شرعية. الأكثر حساسية في اللقاء كان اقتراب رئيس الوزراء من ملف سلم الرواتب، وهو ملف يُدرك الجميع أنه أحد أعمدة الاختلال الاجتماعي في الدولة، الاعتراف بوجــــود تفاوتات غير عادلة، وبأن المخصصات تشكل الجزء الأكبر من دخل شريحة واسعة من الموظفين، يُحسب للسوداني بوصفه خطوة في اتجــــاه كسر الصمت الرسمي، لكن هذا الاعتراف ظل محكوماً بسقف منخفض من الجرأة، إذ لم يترافق مع ملامح واضحة لخارطة طريق، بل قُدم وكأنه توصيف لمشكلة يعرفها الجميع ويخشون الاقتراب من حلها. هنا يبرز النقد الأكثر وضوحاً، فإدارة هذا الملف بمنطق الحذر المفرط قد تحمي الحكومة سياسياً على المدى القصير، لكنها تُبقي جذوة السخط مشتعلة تحت الرماد، فالعدالة الوظيفية لم تعد مطلباً نخبوياً، بل تحولت إلى عنصر مركزي في وعي الموظف العراقي، وأي تأخير إضافي في معالجتها، ولو بخطوات جزئية ومدروسة، سيُحسب بوصفه عجزاً لا تعقلا ً. وفي حديثه عن أرقام الإنفاق العام، سعى السوداني إلى إظهار حجم المسؤولية وثقل الدولة، لكن هذا الطرح رغم منطقيته، اصطدم مرة أخرى بسؤال الثقة، فالمواطن الذي يسمع عن تريليونات تُصرف، دون أن يرى تحسناً ملموساً في الخدمات أو مستوى العيش، لن يقتنع بسهولة بأن المشكلة تكمن في التعقيد لا في سوء الإدارة، الأرقام الكبيرة حين لا تُترجم إلى أثر يومي، تتحول من دليل جــــهد إلى عبء رمزي على الخطاب الحكومي. لقاء دينار في محصلته، عكس حكومة تعرف حدودها، لكنها لم تُقنع بعد بأنها قادرة على توسيع هذه الحدود، السوداني ظهر كمدير أزمة أكثر منه قائد تحول، وهو توصيف لا يحمل بالضرورة حكماً سلبياً، لكنه يضع الحكومة أمام اختبار الزمن، فالشرح مهما بلغ من الاتزان، لا يغني عن النتائج، والواقعية السياسية، إن لم تُرفق بخطوات محسوسة، تتحول مع الوقت إلى ذريعة لا إلى فضيلة. اللقاء كان جيداً، لكنه لم يكن حاسماً، كان اقرب الى محاولة لإعادة ضـبط العــــلاقة مع الرأي العام، وفتح نافذة على تفكير السلطة التنفيذية، مع ترك الأسئلة الكبرى معلقة، وبين ما قيل وما أُجل، يبقى الاقــــتصاد العـــراقي عالقاً في منطقة رمادية، لا هو على شفير الانهيار، ولا هو على عتبة الإصلاح الحقيقي، فيما يواصل المواطن الانتظار، وقد اعتاد أن يسمع أكثر مما يرى. |