عامر الطائي لم يكن حكم البعث الصدامي مجرد نظام سياسي تسلطي، بل كان آلة قمعية لا تعرف الرحمة، استهدفت الإنسان العراقي في وجوده، وعقله، ونفسيته، وحياته اليومية. فمنذ اللحظة الأولى التي استتب فيها الحكم لصدام حسين، بات العراق مسرحًا لأبشع أنواع الجرائم التي مارسها النظام بحق أبنائه، جرائم لم تقتصر على القتل والتصفية الجسدية فحسب، بل امتدت إلى تدمير بنية المجتمع النفسية، مما خلّف صدمات ممتدة الأثر، لا تزال تعيشها الأجيال حتى اليوم. الإرهاب المنهجي والتدمير النفسي لقد اعتمد النظام البعثي على بث الرعب في النفوس، وجعل المواطن العراقي يعيش في حالة دائمة من القلق والخوف. فالتجسس كان سلاحًا يُستخدم بين الأفراد، حتى صار الأخ يخشى البوح بما في قلبه لأخيه، والزوجة تخاف زوجها، والطفل يرتجف إن سمع اسم صدام في بيت أهله. هذه البيئة المشبعة بالخوف المستمر أدت إلى حالة من التوتر والقلق الدائمين، حتى بعد سقوط النظام، إذ ترسّخت في النفوس مشاعر الارتياب وعدم الأمان. إن حملات الإعدامات الجماعية، والسجون السرية، والتعذيب الممنهج، والتهجير القسري، كلها صنعت مجتمعًا جريحًا نفسيًا، يرزح تحت وطأة كوابيس لا تنتهي. فالذين نجوا من المقابر الجماعية حملوا في صدورهم رعبًا لا ينطفئ، وأولئك الذين فقدوا أحباءهم لم يعرفوا يومًا طعم الطمأنينة. لقد صُنع جيل كامل من الأيتام، والأرامل، والثكالى، الذين عانوا من صدمات نفسية تحولت مع الزمن إلى أمراض مزمنة مثل الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، ونوبات الهلع، والخوف الاجتماعي. الأمراض العقلية وصدمات الأجيال لم تتوقف تأثيرات سياسات البعث الصدامي عند جيل عاش تلك الفترة، بل انتقلت إلى الأجيال التي وُلدت بعدها. فقد أثبتت الدراسات النفسية أن الصدمات الجماعية لا تقتصر على الجيل الأول، بل تمتد إلى الأجيال التالية عبر ما يسمى بـ”الصدمة العابرة للأجيال” (Transgenerational Trauma). إن الطفل الذي نشأ في بيت فقد والده أو أحد أفراد أسرته في مجازر النظام، أو في سجون التعذيب، حمل في وعيه الباطن خوفًا غير مفسَّر، وقلقًا متجذرًا، ورثه عن أهله دون أن يكون قد شهد الأحداث بنفسه. وحتى بعد سقوط النظام، لم يستطع العراقيون الخلاص من هذه اللعنة النفسية بسهولة. لقد عاشوا تحت وطأة الحروب العبثية التي أشعلها صدام، من حربه ضد إيران إلى غزوه للكويت، ثم حصار دامٍ استمر أكثر من عقد، جعل الشعب العراقي في دوامة من الجوع والعوز والفقر. إن هذه التراكمات جعلت العراقيين، حتى في زمن “الحرية”، يعانون من مستويات غير مسبوقة من القلق المزمن، واضطرابات الشخصية، والميول الانتحارية. الإرث الأسود والسياسات الإجرامية لم يكن صدام حسين مجرد ديكتاتور تقليدي، بل كان صاحب مشروع تدميري للهوية العراقية. لقد حاول أن يحوّل المجتمع إلى آلة صماء خاضعة لإرادته، مستخدمًا القوة المطلقة، والمراقبة القمعية، والتلاعب بالوعي الجمعي من خلال الإعلام الموجّه، ليخلق أجيالًا ترى في القمع بطولة، وفي الاستبداد هيبة، وفي الصمت نجاة. وهكذا صار المواطن العراقي مرعوبًا من فكرة التعبير عن رأيه، بل حتى من مجرد التفكير المستقل. ما بعد سقوط النظام: هل انتهى الألم؟ عندما سقط نظام صدام، ظن الكثيرون أن الكابوس قد انتهى، لكن الواقع كان أكثر تعقيدًا. فالشعب الذي عاش تحت القهر لعقود لم يكن مستعدًا لمواجهة عالم جديد بلا ديكتاتور، لكنه ممتلئ بأطلال الخوف والشك وانعدام الثقة. لم يكن السقوط يعني التحرر الفوري، بل كانت هناك حاجة إلى سنوات من العلاج النفسي الجمعي، الذي لم يحدث للأسف، مما جعل اضطرابات ما بعد الصدمة تمتد وتتحول إلى حالة عامة، أثرت على الأمن، والاستقرار الاجتماعي، وحتى على العلاقات الإنسانية البسيطة. العراق بين الذاكرة والشفاء إن جرائم البعث الصدامي لم تكن مجرد حقبة دموية في تاريخ العراق، بل كانت كارثة نفسية واجتماعية لا تزال آثارها تتغلغل في النفوس حتى اليوم. إن معالجة هذا الإرث لا تكون بمجرد إسقاط النظام، بل تحتاج إلى جهود جبارة لإعادة تأهيل المجتمع نفسيًا، وتعزيز ثقافة العدالة، وتمكين العراقيين من كسر دائرة الخوف والقلق التي ظلت تحكمهم لسنوات طويلة. العراق بحاجة إلى شفاء نفسي، تمامًا كما يحتاج إلى إعادة إعمار مادي، فالأوطان لا تبنى بالحجر وحده، بل تحتاج إلى قلوب آمنة، ونفوس مطمئنة، وذاكرة تعي الماضي لكي لا تكرره، لكنها في الوقت نفسه لا تبقى رهينة لجراحه. |