عمار عبد الكريم الموسوي حين نُمعن النظر في سيرة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ، يتجلّى لنا وجهٌ من وجوه الإمامة التي لا تختزل في القيادة الروحية والعلمية فحسب، بل تتجاوزها إلى مشروعٍ حضاريّ متكامل في صلب بناء الأمة وصيانة هويتها الرسالية من الانزلاق نحو مهاوي التحريف والانحراف. لقد تسنّم الإمام الجواد (عليه السلام) منصب الإمامة في مقتبل عمره الشريف، في ظرف تاريخيّ بالغ الحساسية، كانت فيه الدولة العباسية قد بلغت من التجذّر في الاستبداد والتضليل مبلغاً، وتمظهرت ألوان الانحرافات الفكرية والسياسية، خصوصاً في داخل الوسط الشيعي بفعل ضغط السلطة واختراق المرجعيات المزيفة. 1. التصدي العلمي للمفاهيم المنحرفة
أولى الجبهات التي خاضها الإمام( عليه السلام) كانت جبهة العلم والمعرفة، حيث نهض بدور المرجعية العليا في رد الشبهات، وإبطال المباني الكلامية المنحرفة، لا سيّما تلك التي روّج لها المتكلمون المرتبطون بالبلاط العباسي، أمثال يحيى بن أكثم، والذي شهدنا إحدى جولاته العقيمة في مناظرة الإمام (عليه السلام)، يوم عجز عن مجاراته في قضايا فقهية دقيقة، وهو الحَبرُ الأكبرُ في مدرستهم. لقد كانت مناظرات الإمام الجواد (عليه السلام) أكثر من مجرد سجالات علمية، بل كانت تجسيداً لخط الإمامة في تكريس المرجعية الإلهية للعلم الصحيح، وتعرية مدّعيات السلطة التي تسعى لاحتكار الدين وتوجيهه بحسب مصالحها. 2. تربية ورعاية النخب الرسالية لم يكن الإمام الجواد (عليه السلام) مقتصراً على المواجهة الظاهرية، بل انشغل في إعداد ورعاية نواة من العلماء والخواص، الذين تصدوا لحفظ الحديث وتنقيته من الدسّ، وكانوا صمّام أمان في تحصين الأمة من التيارات الهدامة، كالواقفية والغلاة والمفوّضة. وقد أحسن الإمام (عليه السلام) إدراك معادلة التأثير، إذ أن بناء الأمة لا يتحقق فقط عبر قيادة الجماهير، بل من خلال تمكين الكوادر العلمية القادرة على تحمّل أعباء البيان والتبليغ والذب عن حياض الدين. 3. ترسيخ مفهوم الإمامة الإلهية ومن أخطر ألوان الانحراف التي تصدى لها الإمام (عليه السلام) ، هو السعي المحموم لتفريغ الإمامة من محتواها الإلهي وتحويلها إلى عنوان وراثي أو رمزي، يتعايش مع الطغيان ويتماهى معه. فجاءت مواقف الإمام الجواد (عليه السلام) لتؤكّد أن الإمامة ليست موقعاً اجتماعياً أو لقباً شرفياً، بل هي ولاية إلهية تتنزل من فوق، وتتقوّم بالعصمة والعلم اللدني، والهداية بأمر الله تعالى. ولذا رفض الإمام الجواد (عليه السلام) المهادنة أو الإذعان لمحاولات السلطة استيعابه تحت عنوان المصاهرة السياسية (زواجه من ابنة المأمون)، بل ظلّ يمثل خط المعارضة الرسالية ضمن أطر التقية المدروسة، حتى استُشهد غريباً مظلوماً مسموماً، ولم يخضع. وفي نهاية الكلام : لقد أسس الإمام محمد الجواد ( عليه السلام) منهجاً ربانياً متكاملاً لمواجهة الانحراف، جمع بين النهوض العلمي، والتكوين التربوي، والموقف السياسي، وكان في كل ذلك امتداداً نقياً لخط النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين( عليه السلام). وإنّ الأمة اليوم، وهي تواجه ألوان الانحرافات، مدعوةٌ لأن تتلمّس خطاه وتستلهم مشروعه. |