ناجي الغزي في صباح يوم العاشر من محرم، لم تكن ساحة «ماربل آرتش» (Marble Arch) في لندن مجرّد نقطة انطلاق لمسيرة دينية، بل تحولت إلى منبر كوني يعلو منه صوت التاريخ والكرامة والدمع. هناك، وعلى وقع صيحات «يا حسين»، انطلقت أكبر مسيرة حسينية يشهدها الغرب، في قلب العاصمة البريطانية - لندن- لتعيد صياغة المشهد الحسيني بلغة معاصرة، يتحدث بها العالم كله. عند العاشرة صباحاً من يوم الأحد الموافق 6 يوليو 2025، اصطفّت جموع غفيرة من المؤمنين، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، بعضهم جاء مشياً من أطراف لندن، وآخرون من مدن بعيدة، ليكونوا شهوداً على اللحظة، وليجددوا العهد مع الحسين، رمز الفداء والكرامة. من (Marble Arch) «ماربل آرتش» إلى 10 Downing Street «داوننغ ستريت10» مقر الحكومة البريطانية، عبر شارع «أكسفورد» Oxford Street النابض، اجتاحت الحشود الصامتة بصخبها، رافعةً رايات الحزن والأمل معاً. مرّت المسيرة بساحة «الطرف الأغر» (Trafalgar Square) كما لو كانت تسير على خريطة معنوية رسمت خطوطها في كربلاء، قبل أكثر من ألف عام. كل خطوة كانت تردد صدى الحسين، وكل دمعة كانت مرآة لما حدث تحت شمس الطف. الشيخ أسامة الرفيعي قرأ بصوت يرتجف بالحقيقة تفاصيل المأساة، محولاً السرد إلى تجربة حية. وما إن بدأ السيد مهدي المدرسي بتلاوة المقتل باللغة الإنجليزية، حتى علت الهمهمات وأصوات النشيج، وكأن كربلاء لم تكن واقعةً من الماضي، بل لحظة تعيش في قلب كل حاضر. المسيرة لم تكن مجرّد تظاهرة دينية، بل كانت عرضاً شعائرياً مهيباً، بلغ عدد المشاركين فيه أكثر من نصف مليون إنسان، حسب الإحصاءات الرسمية البريطانية. ومن بين أهم رموزها، راية سوداء ضخمة امتدت على طول 140 متراً، قادمة من العتبة الكاظمية، ومزينة بأسماء الأئمة المعصومين، تحيط بها رايات حمراء تهتف: «الحسين للإنسانية». لقد كانت هذه الرموز رسائل صامتة، لكن بليغة، تتحدث إلى كل ضمير حي. وفي قلب المسيرة، نُصبت نُسخ مصغرة من قبري الإمام الحسين وأخيه العباس، وكأن كربلاء بكل رموزها قد حلت ضيفة على شوارع لندن. كان الحاضرون لا يتفرجون فقط، بل كانوا جزءاً من مشهد يتكرر، رسالة تتجدد، وقيم تتسلل إلى اللاوعي الجمعي للبشرية. لم تقتصر المشاركة على الشيعة أو حتى المسلمين، بل امتدت لتشمل منظمات إنسانية، ومواطنين بريطانيين، وجنسيات متعددة، جاءوا لا ليعتنقوا الدين بالضرورة، بل ليعتنقوا القيم التي يمثلها الحسين: العدل، والحرية، والكرامة. ما يقرب من مليون شخص، بين مشارك ومشاهد، جعلوا من هذه المسيرة حدثاً ليس إسلامياً فحسب، بل إنسانياً بامتياز. المجلس الحسيني السنوي في لندن، برعاية واهتمام الحاج محمد عبد الرسول البلاغي، عمل على تنظيم كل تفصيل من تفاصيل المسيرة، من الترتيبات الأمنية إلى الخدمات الطبية، إلى توزيع الطعام والماء، إلى تنظيم الفعاليات الموازية في قاعة المجلس بشارع «إجورد رود». لقد كان المشهد شديد النظام، لكنه مشبع بالعاطفة، وكأن القلب والعقل اتفقا في هذه المسيرة على هدف واحد: أن يُقال للعالم إن الحسين لا يزال حياً. الأثر الذي خلفته المسيرة لا يمكن اختزاله في أرقام الحضور أو طول الرايات. بل يكمن في الرسالة العميقة التي حملتها إلى كل بيت في لندن، وكل شاشة في العالم. رسالة تقول إن الحسين ليس مجرد شخصية تاريخية، بل وعي يتجدد في وجه الظلم، وصوت يعلو حين يصمت الجميع. في مسيرة وفي كل مجلس لا يُقدَّم الحسين كبطل مأساوي انتهت قصته، بل كحقيقة مستمرة، تقف كل عام أمام الزمن. فالحسين لم يكن مشروعاً دينياً فحسب، بل كان ضميراً أخلاقياً يصرّ على مساءلة الأنظمة والناس، ويطالبهم باختيار موقعهم: مع الظالم أم المظلوم. لهذا، فإن المسيرة في لندن لم تكن تعزية تقليدية، بل محاكمة أخلاقية وسياسية، لكل ما وصل إليه عالمنا من قهر وصمت وتواطؤ. إنها ليست استذكاراً لبكاء قديم، بل دعوة إلى نهوض جديد، وإلى أن تكون كربلاء ليست نهاية، بل بداية مستمرة للبحث عن العدالة. في زمن تتغير فيه الجغرافيا السياسية وتتشوه فيه المعايير، تبقى كربلاء ثابتة، ويظل الحسين هو البوصلة التي لا تخطئ الاتجاه. ومن قلب لندن، التي كانت يوماً عاصمة إمبراطوريات كبرى، خرج صوت الحسين ليقول: ما زال للحق أن يُقال، وما زال هناك من يسير في طريقه، ولو كلفه ذلك دمه. وهكذا كانت المسيرة، لا مجرد حدث، بل شهادة على أن الدم لا يجف، وأن الذاكرة لا تموت، وأن الحسين – وإن مضى – ما زال يقود. |