محمد عبد الجبار الشبوط المقدمة منذ أن طرح هيغل مفهوم نهاية التاريخ بوصفه لحظة اكتمال الوعي الإنساني بذاته وبلوغه المصالحة النهائية بين الحرية والعقل، توالت المحاولات لتفسير هذه الغاية الكبرى للتاريخ الإنساني. فقد رأى ماركس وإنجلز أن نهاية التاريخ تتجسد في المجتمع الشيوعي الذي تزول فيه الطبقات وتتحقق العدالة المطلقة. بينما عدّ فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير ثم في الثقة أن الديمقراطية الليبرالية هي ذروة التطور السياسي والاقتصادي للإنسانية، وأنها تمثل الشكل النهائي لنظم الحكم. أما في الفكر الإسلامي، فقد طرح السيد محمد الصدر في اليوم الموعود رؤية مغايرة وجذرية، إذ اعتبر أن التاريخ الإنساني يتجه نحو المجتمع المعصوم، وهو المجتمع الذي يقوده الإمام المعصوم في ظل العدالة الإلهية الشاملة. ومع التسليم بفرضية المجتمع المعصوم باعتباره الغاية النهائية لمسار التاريخ الإنساني، فإن هذا المقال يجادل بأن نموذج الدولة الحضارية الحديثة هو المرحلة التمهيدية التاريخية الضرورية لظهور هذا المجتمع، إذ يمثل اكتمال النضج الإنساني في مجالات الوعي، والمؤسسات، والقيم، بما يجعل الإنسانية مؤهلة لاستقبال مرحلة العصمة الجماعية والقيادة المعصومة. أولاً: مفهوم نهاية التاريخ في الفكر الفلسفي يُفهم التاريخ، عند هيغل، كحركة جدلية بين العقل والواقع، تتجه نحو تحقيق الحرية الكاملة. وقد تبنّى ماركس هذا الإطار الجدلي لكنه ألبسه المادية، فصار التاريخ عنده صراعًا طبقياً ينتهي بمجتمع شيوعي بلا استغلال. ثم جاء فوكوياما ليحوّل الفكرة إلى سياق ليبرالي معاصر، فرأى أن الديمقراطية الرأسمالية هي الشكل النهائي للتطور السياسي، لأنها تحقق مزيجاً من الحرية الاقتصادية والسياسية التي لم تتجاوزها أي منظومة أخرى. لكن الملاحظ أن كل هذه الرؤى تنطلق من رؤية إنسانوية محضة تفترض أن الإنسان وحده هو صانع غايته، وأن التاريخ ينتهي حين يبلغ الإنسان أقصى درجات النضج الذاتي والعقلاني ضمن أطر بشرية محضة. ثانيًا: المجتمع المعصوم كنهاية إلهية للتاريخ في المقابل، يقدم السيد محمد الصدر تصورًا توحيديًا للتاريخ الإنساني، يرى فيه أن حركة البشر ليست مكتفية بذاتها، بل تتجه نحو اكتمال إنساني لا يتحقق إلا بالهداية الإلهية. فالمجتمع المعصوم، كما صاغه، هو المجتمع الذي تتحد فيه العدالة الإلهية بالعدالة الاجتماعية تحت قيادة معصومة ترفع كل أشكال الانحراف في الفكر والسلوك والنظام. وبذلك، يكون المجتمع المعصوم هو تحقيق نهاية التاريخ الإلهية التي تتجاوز حدود النهايات الفلسفية أو المادية السابقة، إذ لا تكتفي بتحقيق الحرية أو العدالة فحسب، بل توحّد بين الحقيقة والقيمة، بين السلطة والقداسة، وبين الإنسان والإيمان. ثالثًا: الدولة الحضارية الحديثة كمرحلة تمهيدية غير أن بلوغ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحقق في فراغ حضاري أو في بيئة متخلفة. فلكي تكون البشرية مؤهلة لمرحلة العصمة، لا بد أن تمر بمرحلة الدولة الحضارية الحديثة، التي تمثل أعلى درجات النضج البشري الممكن في غياب القيادة المعصومة. تتميز الدولة الحضارية الحديثة بارتكازها على اثنتي عشرة قيمة عليا هي: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، والإبداع. وهي القيم التي تُعدّ بمثابة الشرط الأخلاقي والمؤسسي لتهيئة الإنسانية لاستقبال القيادة الإلهية. ففي حين أن الليبرالية الغربية أفرزت الحرية بلا عدالة، والشيوعية سعت إلى العدالة بلا حرية، فإن الدولة الحضارية الحديثة تمثل التركيب الجدلي الأعلى بين القيم الإنسانية المتكاملة، بما يجعلها الجسر التاريخي بين المدنية البشرية المحدودة والمجتمع المعصوم الكامل. رابعًا: التمهيد التاريخي للعصمة الجماعية يمكن النظر إلى الدولة الحضارية الحديثة على أنها نقطة التحول بين التاريخ النسبي والتاريخ المطلق؛ إذ تمكّن الإنسان من بناء مؤسسات عادلة، ونظم معرفة متقدمة، ومجتمع قيمي يقترب من المثال الإلهي دون أن يبلغه بعد. وفي هذا السياق، تصبح الدولة الحضارية الحديثة بمثابة الاختبار الأخير للإنسانية: • فإذا استطاعت أن توازن بين السلطة والقيم، والعقل والإيمان، تكون قد أنجزت شرط الاستعداد الروحي والعقلي لمرحلة المجتمع المعصوم. • أما إذا أخفقت، فإنها تعيد إنتاج أنماط الاستبداد والتخلف التي تعيق حركة التاريخ نحو غايته. الخاتمة إن فكرة نهاية التاريخ، كما أعيدت صياغتها في ضوء مشروع الدولة الحضارية الحديثة، لا تُفهم بوصفها لحظة توقف للحركة الإنسانية، بل باعتبارها اكتمالاً لدورة التطور الوجودي للبشرية نحو التوحيد بين القيم والواقع، بين الإنسان والسماء. ومن ثمّ، فإن المجتمع المعصوم ليس غاية متعالية فحسب، بل هو تحصيل منطقي لمسار حضاري تمهيدي يتجسد في الدولة الحضارية الحديثة. فهذه الدولة، بما تؤسس له من وعي حضاري ومؤسسات إنسانية وقيم عليا، هي القنطرة التاريخية التي تصل بين العالم الإنساني والعالم المعصوم، بين الحرية الانسانية والعدالة الالهية. |