محمد عبد الجبار الشبوط الجزء الاول
1. مدخل: من “دولة الشريعة” إلى “دولة الحضارة” القرآن لم يقدّم نموذجًا جامدًا للدولة، ولم يفرض شكلاً مؤسّسيًا محددًا للحكم، بل قدّم منظومة قيم وسنن حضارية تُنظّم حركة المجتمع الإنساني نحو العمران، العدالة، والكرامة. وهذا ما يجعل الإسلام دينًا حضاريًّا لا ثيوقراطيًّا، أي دينًا يدعو إلى إقامة مجتمع ودولة تجسّد تلك القيم في الواقع، بغضّ النظر عن الشكل الإداري أو النظام السياسي. فالدولة الحضارية الحديثة هي الإطار الذي تتحقق فيه القيم العليا التي دعا إليها القرآن: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» (الحديد: 25). هذه الآية تُعتبر الأساس القرآني الأعمق لفكرة الدولة الحضارية الحديثة، لأنها تحدد الغاية من الرسالة السماوية: إقامة القسط، أي العدالة الشاملة. والعدالة لا تتحقق في فراغ، بل تحتاج إلى نظام سياسي واجتماعي يضمنها — أي إلى دولة حضارية. 2. مكونات الدولة الحضارية في النص القرآني يمكن تلمّس العناصر التكوينية للدولة الحضارية الحديثة في عدد من المبادئ القرآنية المركزية، هي ذاتها القيم التي تُشكّل جوهر مشروعنا الفكري: الاستخلاف — الأساس الوجودي للدولة الحضارية «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» (البقرة: 30). هذه الآية تؤسس لموقع الإنسان في الكون بوصفه فاعلًا حضاريًا لا مخلوقًا منسحبًا من حركة التاريخ. فالاستخلاف هنا ليس سلطةً على الناس، بل ولايةٌ على العمران، ومسؤولية عن تحويل موارد الأرض إلى قيم حياة وعدل وجمال. ومن هذا المنظور، فإن الدولة الحضارية الحديثة هي التعبير المؤسسي عن مبدأ الاستخلاف، أي هي الإطار الذي يمكّن الإنسان من أداء وظيفته الاستخلافية في بناء الأرض، وتحقيق القيم القرآنية في التاريخ. وبذلك يصبح الاستخلاف هو الأساس الوجودي للدولة الحضارية، والآية «ليبلوكم أيكم أحسن عملاً» هي الأساس القيمي والأخلاقي لها، والآية «ليقوم الناس بالقسط» هي غايتها العملية والسياسية. فالثلاثة معًا تشكل الهرم القرآني للدولة الحضارية الحديثة: الاستخلاف (البقرة: 30) ← الأساس الوجودي. الإحسان في العمل (الملك: 2) ← الأساس القيمي والأخلاقي. إقامة القسط (الحديد: 25) ← الغاية السياسية والاجتماعية. الحرية — أساس التكليف والمسؤولية «لا إكراه في الدين» (البقرة: 256). الحرية هنا ليست مجرد حرية اعتقاد، بل مبدأ حضاري يمنع أي سلطة من مصادرة إرادة الإنسان. الدولة التي تحترم الحرية هي دولة حضارية. العدالة والمساواة — جوهر النظام السياسي والاجتماعي «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» (النحل: 90)، «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى… إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13). القرآن يجعل العدالة والمساواة شرطين لشرعية أي نظام، وهما من أبرز سمات الدولة الحديثة. الشورى (المشاركة السياسية) — جوهر الحكم الديمقراطي الحضاري «وأمرهم شورى بينهم» (الشورى: 38). الآية لا تحدد آلية الشورى، بل تفتح المجال أمام تطور الوعي السياسي، أي نحو أشكال المشاركة الحديثة في الحكم (الانتخابات، المؤسسات التشريعية، الرقابة الشعبية). المسؤولية والإتقان — قيم الأداء والإدارة «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» (التوبة: 105). هنا يربط القرآن الشرعية بالأداء العملي، أي أن الحاكم أو المؤسسة تكتسب قيمتها بقدر ما تحقق الخير العام وتعمل بإتقان. «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» — المبدأ القرآني الأعلى للدولة الحضارية «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً» (الملك: 2). هذه الآية لا تتحدث عن العبادة الفردية فحسب، بل عن معيار التفاضل في الوجود الإنساني كله: الإحسان في العمل. فهي تختصر فلسفة الحضارة في كلمتين: أحسن عملاً. وهذا هو مبدأ الإتقان والمسؤولية والإبداع الذي يجعل المجتمع يتطور ويتقدم، ويحوّل الدولة إلى أداة لخدمة الإنسان والارتقاء به. فإذا كانت كل منظومة قرآنية ترمي إلى “إقامة القسط”، فإن وسيلتها العملية لتحقيق ذلك هي أن يصبح كل فرد ومؤسسة في الدولة يسعى لأن يكون “أحسن عملاً”. ومن هنا، تكون الدولة الحضارية الحديثة — في جوهرها — تجسيدًا عمليًا لقوله تعالى “ليبلوكم أيكم أحسن عملاً”، أي إنها مشروع قرآني لإطلاق طاقات الإبداع والإتقان في كل مجالات الحياة: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن العلم إلى الأخلاق. التعاون والتضامن — الأساس الاجتماعي للدولة «وتعاونـــصوا على البر والتقـــــوى ولا تعـــــاونوا على الإثم والعدوان» (المائدة: 2).
|