امين السكافي منذ أن أُطلقت الفكرة، لم تكن “إسرائيل الكبرى” مجرّد حدودٍ على خريطة، بل كانت أسطورة سياسية وخطة أيديولوجية تمتد جذورها في تربةٍ قديمةٍ من النصوص والتأويلات الدينية، وتتغذّى من طموحاتٍ استعمارية حديثة لبناء كيانٍ يتجاوز الجغرافيا إلى تخوم الفكرة والرمز. البذرة الأولى للفكرة بدأت نواة “إسرائيل الكبرى” في فكر الحركة الصهيونية مع نهايات القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع ثيودور هرتزل، الذي لم يكتفِ بالدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل تحدّث في كواليس المؤتمرات عن “الحدود التاريخية لإسرائيل” الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات، استنادًا إلى تأويل توراتي مزعوم يربط الأرض بالوعد الإلهي. ثم تحوّل الحلم مع الزمن إلى مبدأ سياسي تدرّج في الأدبيات الصهيونية، وغذّته المقولات الدينية لتمنحه طابعًا قدسيًا يوظّف النص في خدمة المشروع. من المعبد إلى الخريطة مع قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، وُلدت الدولة الصهيونية ضمن حدودٍ رسمت لها بسبب التحولات في المنطقة ولكنها أعتبرت ضيّقة للجيل الصهيوني المؤسس، ولذلك حملت في قلبها نزعة التوسّع التي أُلبست لبوس “الأمن”. فكانت كل حربٍ تخوضها إسرائيل، من 1948 إلى 1967، ثم إلى 1982، توسيعًا لفكرة إسرائيل الكبرى بطريقة زاحفة — حرب تُكسب الأرض، وأيديولوجيا تُكسب الشرعية. وجاء الاحتلال عام 1967 ليُشكّل الذروة العسكرية للمشروع: القدس، الضفة الغربية، سيناء، الجولان… كلها دخلت في الجغرافيا الجديدة، لتبدو خريطة “الوعد القديم” وكأنها تقترب من الاكتمال. غير أنّ اكتمال الخريطة لم يعنِ اكتمال الدولة، إذ بدأت المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية تُعيد رسم الحدود بالدم، لا بالحبر. التحوّل من الحلم إلى السياسة في الثمانينيات، خصوصًا بعد غزو لبنان عام 1982، ظهرت أولى الشقوق في الحلم التوراتي: فبدل أن تُحكم إسرائيل قبضتها على المنطقة، غرقت في مستنقع المقاومة. وعوض أن تتمدّد حدودها شمالًا وجنوبًا، بدأت تنكمش تحت ضغط المعارك والانتفاضات والرفض المتزايد. أما في السياسة الحديثة، فقد اتخذ مفهوم “إسرائيل الكبرى” شكلاً جديدًا غير جغرافي: السيطرة عبر الاقتصاد، التكنولوجيا، التحالفات، والاختراق الثقافي والإعلامي. صارت الفكرة إمبراطورية نفوذ لا إمبراطورية حدود. ما تحقق من الحلم تحقّقت لإسرائيل مكاسب جزئية: تفوّق عسكري، علاقات مع دول عربية، تمدّد اقتصادي وتقني، وتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة. لكنها، رغم ذلك، لم تستطع تثبيت شرعيتها في وجدان المنطقة. فما زالت محاطة بجدارٍ من الرفض والمقاومة، من غزة إلى لبنان إلى طهران إلى الضفة، وما زال الحلم التوسّعي محاصرًا بالواقع السياسي والجغرافي والسكاني. موانع قيام إسرائيل الكبرى إنّ قيام “إسرائيل الكبرى” يصطدم بعدّة موانع جوهرية: 1. الواقع الديمغرافي: تفوّق عربي وإسلامي سكاني يجعل فكرة التوسع غير قابلة للاستدامة. 2. المقاومة المسلحة والشعبية: من لبنان إلى فلسطين، أُجهض المشروع العسكري التوسّعي بالدم والتضحية. 3. التحوّلات الدولية: تغيّر موازين القوى، وبروز روسيا والصين، واهتزاز الهيمنة الأميركية التي كانت الدرع الأكبر للمشروع. 4. الانقسامات الداخلية الإسرائيلية بين دينيين وعلمانيين، بين من يريد التوسع ومن يخشى الانهيار من الداخل. ما بين الحلم والهاوية لقد أرادت الصهيونية أن تجعل من إسرائيل الكبرى قدراً مقدّسًا، لكنها اصطدمت بواقعٍ لا يرحم الأحلام التي تُبنى على الدم والتهجير. فكل خطوة نحو التوسّع جلبت معها مزيدًا من القلق والخوف والاضطراب، حتى باتت إسرائيل تعيش داخل حصنٍ من الفولاذ والنار، تخاف الغد أكثر مما تطمع فيه. ولعل المفارقة الكبرى أن المشروع الذي أراد “أرضًا من النيل إلى الفرات”، أصبح اليوم يحلم بالأمان داخل مساحته الصغيرة، في زمنٍ تتساقط فيه الأساطير وتبقى الحقائق وحدها حيّة.  |